الدين المعلّب

☺ فضلاً، أريد أن أتعلّم اللهجة الشايقيّة؛ هل يمكنك أن تدلّني على كتاب أقرأ منه؟
☻ أعذرني، فلم أسمع عن كتاب عن هذه اللهجة؛ لكن لماذا تريد أن تتعلّمها؟
هذا السؤال الأخير بديهيّ في حوار كهذا، وهو السبب في عدم وجود (أو انتشار) كتاب كهذا؛ فاللهجة الشايقيّة، واللغة المحسيّة، وكثير من اللغات المحلّيّة، ترتبط بمجموعات محصورة عرقيّا وجغرافيّا، كلّهم يعرفون لغتهم، ولا يهمّهم كثيرا أن ينشروها خارج مجموعتهم.
☻ على كلّ يمكنك تعلّم مثل هذه اللغات واللهجات بالعيش في المجتمعات التي تتكلّمها.
جيّد: إذن فوجود عمليّة تعلّم لا يعني وجود علم أو كتاب، بل يمكن تعلّم مهارات وفنون من خلال ممارستها..

هل يمكننا القول بأنّ الداعي لوجود كتب عن اللغة هو الرغبة في نشرها؟ إلى حدّ ما هذا هو الغرض الرئيسيّ، لكن هنالك أغراضا أخرى، مثل محاولة تطوير اللغة (كتابتها مثلا)، أو محاولة دراستها لسبب أو آخر. الكلمة التي تجمع الأغراض من وضع علوم اللغة هي ’تصدير‘ exporting اللغة عبر الزمان والمكان و’العمق‘ وغير ذلك.
ليست اللغة وحدها ما يخضع للتصدير، بل كلّ المعارف والفنون والأفكار. والتصدير هذا فنّ يجيده البشر، امتازوا به عن الملائكة وعن كثير من مخلوقات الله، وطوّروه كثيرا. فلو سألتك ما هذا (♥) لقلت أنّه قلب؛ لكنّه بالتأكيد ليس قلبا، بل هو رسم يرمز لقلب؛ وما أن ترى الرمز حتى يظهر القلب في ذهنك، رغم أنّ معظمنا لم ير في حياته قلبا حقيقيّا! هكذا بدأ فنّ التصدير بالرسم والنحت، ثمّ كتابة الكلام، ثمّ تطوّر عبر الزمان كثيرا، وانتهى اليوم بهذه الثورة التي نعيشها في الاتصالات والمعلومات.
التصدير فن؛ عمليّة خلاقة، تتضمّن ضمن ما تتضمّن التجريد abstraction/projection والتقييد encoding؛ لكن لمّا كان الاحتياج لهذا الفنّ كبيرا فقد حاول البشر تحويله إلى علوم إجرائيّة، مستخدمين الوصفة السحريّة divide & conquer. في حالة اللغة مثلا فكك الناس الأصوات إلى مجموعة محددة من الحروف، واستخرجوا قواعد لتركيب الكلام، واخترعوا حروفا لرسمه، وهكذا حتّى تمكّنوا من إفراغ اللغة في مجموعة من الكتب، يقرأها القارئ ليتعلّم اللغة. ثمّ اعتمدت هذه الطريقة لأيّة لغة، أن تفكك إلى حروف، مفردات، قواعد، وأساليب بلاغيّة.

كان الغرض من تصدير اللغة هو نقلها عبر المكان، ليتعلّمها الناس من شعوب أخرى لا تتكلّمها؛ فلا عجب أن يكون أكبر العلماء في قواعد اللغة العربيّة فارسيّ..
ثمّ حدث شيء مهمّ: مع ظهور التعليم النظاميّ بدأت المدرسة تأخذ تدريجيّا من دور الآباء في تعليم الأطفال؛ فصارت تعلّمهم المهارات الحسابيّة بصورة مقننة، تعلّمهم عن الطبيعة، تربّيهم على الانضباط، وقد تعلّمهم لغات أخرى يحتاجونها..
لغات؟ ولمَ لا نعلّمهم لغتنا نحن أيضا، فهذا الأسلوب سريع في التعليم؟ هكذا صارت المادّة العلميّة المعدّة للتصدير عبر المكان تصدّر عبر الأجيال كذلك.

وما المشكلة في ذلك؟ أليس هذا جيّدا وفعالا؟
رغم فعاليّته فإنّ هذا الأسلوب أتى بنتيجة خطيرة، وإن لم تكن ضارّة بالضرورة:لقد صارت مادّة التصدير تؤثّر في الشيء المراد تصديره؛ ففي حالة اللغة العربيّة مثلا صارت المادّة التي أعدّها سيبويه، ربما لغير الناطقين بها، هي المرجع الأساسيّ لقواعد اللغة العربيّة حتّى للناطقين بها. طبعا واصل بعض العرب استخدام لغتهم ’حقّتُم‘ بصورة طبيعيّة، غير آبهين بما كتبه سيبويه، وانتهى الأمر بأن صارت اللغة لغتان: لغة عربيّة بمعنى ”اللغة التي يتكلّمها العرب“، وهو التعريف الطبيعيّ لأيّة لغة، ولغة عربيّة بمعنى ”اللغة التي جرّدها وقيّدها بعض الباحثين المهتمّين باللغة“. وبما أنّ الأخيرة هي الأسهل من حيث الضبط والتعلّم، فقد تبنّتها كلّ الأجهزة الإجرائية، كالحكومة والقضاء والفقه والتعليم.

خدمنا مثال اللغة في توضيح بعض الأشياء، والآن ننتقل لموضوعنا الأساسيّ في هذا المقال، وهو الدين. هنالك شبه بين ’اللغة‘ وبين ’الدين‘، في أنّهما أشياء يتعلّمها الناس ويستخدمونها، لكنّها ليست ’علوما‘ معدّة للتصدير والتناول العلميّ.
أرسل الله رسوله ’بالهدى‘ و ’دين الحقّ‘، وأنزل معه الكتاب، ليبيّن لـ’لناس‘ ما أنزل إليهم.
عمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم عملا كبيرا ليهدي الناس للدين الذي يريده الله لعباده، ذلك الدين الذي اهتدى إليه من قبل إبراهيم عليه السلام.
خلال ثلاثة وعشرين عاما كان هنالك وحيّ متصّل يتنزّل على الرسول ليصحح مساره ومسار من حوله. جدير بالملاحظة أنّ الوحي وإن كان ينزل على رسول الله إلّا أنّه لم يكن المخاطب الوحيد، بل هنالك خطاب موجّه مباشرة للمؤمنين به من حوله، وخطاب موجّه للمعاصرين من أهل الكتاب؛ ما يشير إلى أنّ الموضوع لم يكن مجرّد فحوى رسالة تبثّ للجميع، بل تضمّنت مهمّة الرسول بناء نظام system يبثّ ’الإسلام‘ في ’العالمين‘.

ثمّ جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واكمل الله للمؤمين دينهم، ورحل رسول الله عن هذه الدنيا.
ثمّ وُلد جيل جديد لم يحضر البأساء والضرّاء التي خرج من بينها هذا الدين؛ كما أنّ الفتوحات حملت الدين إلى شعوب جديدة، تختلف في لغتها وثقافتها عن المجموعة التي غُرس فيها الدين؛ ووصل الدين كذلك لبقاع تختلف بيئاتها عن بيئة المنشأ.
وبالإضافة لأبعاد الزمان (الأجيال) والمكان (الثقافات والبيئات)، فإنّ الدين احتاج أيضا لأن ينقل في ’العمق‘؛ إذ في كلّ يوم تظهر أبعاد جديدة في حياة البشر، مع تطوّر معارفهم.
كلّ هذا كان داعيا لتفريغ الدين في قوالب تصلح للتصدير؛ ليستورده من يعتنقه في مكان آخر أو ثقافة مختلفة أو زمان قادم أو ظرف جديد.
ومثلما كان بعض أبرز الباحثين في تجريد اللغة العربيّة من الأعاجم؛ تتوقّع أن يكون المجتهدين في التناول ’العلمي‘ للدين ممن يتوقون للّحاق بالأصيلين natives فيه. وفعلا؛ كان أشهر من ’بحث‘ في تفسير القرآن عبد الله ابن عباس، وأكثر من جمع ’أحاديث‘ رسول الله أبوهريرة؛ كلامهما فاتته الصحبة الطويلة لرسول الله. جدير بالقول أنّ ’التفسير‘ محاولة لتفريغ بعض محتوى القرآن في قالب علميّ؛ وكذلك جمع ’الأحاديث‘ خطوة في اتجاه تجريد ’سنّة‘ رسول الله في مادّة علميّة.
ثمّ كان أكثر القراء العشرة من الأعاجم، وانتقلت عاصمة العلم إلى بغداد ثمّ نيسابور؛ وهكذا.

لكنّ تصدير الدين كان أعقد بكثير من تصدير اللغة؛ وخصوصا الدين ’السماويّ‘ الذي لا يرى الناس فيه ربّهم. كما أنّ تصدير الدين لم يكن أمرا معتادا كتصدير اللغة الذي يمارسه البشر كثيرا. كذلك فإنّ غياب رسول الله، وانقطاع الوحي، يعني انعدام المصدر القطعيّ الذي يمكن الرجوع إليه وسؤاله؛ الأمر حقّا معقّد جدّا..
لكن رغم هذه الصعوبات يبدو أن تصدير الدين كان ضرورة حتميّة لا مفرّ منها، للأسباب التي ذكرناها. في المقابل لم يكن هنالك معيار مسبق يقاس عليه جودة المادّة العلميّة التي يفرّغ فيها الدين للتصدير؛ ولا يوجد إطار framework جاهز لعمليّة التجريد اللازمة لاستخراج المادّة العلمية؛ ولا حتّى اتفاق حول ماهيّة الدين ونطاقه والقصد منه. ومن ثمّ أدّت الاجتهادات إلى ظهور أُطر مختلفة لتجريد الدين في قوالب علميّة؛ تختلف بحسب تصوّرها لماهيّة الدين والغرض منه. وداخل كلّ إطار ظهرت كذلك تفريعات متنوّعة. جدير بالذكر أنّ هذه التجريدات كثيرا ما استعارت أطرها من فنون ومعارف أخرى، وذلك بمقارنة الدين بهذه المعارف كما قارنّاه باللغة هنا.
على سبيل المثال نأخذ المذهب المعروف بـ’أهل السنّة والجماعة‘: يبدو أنّه كان منطلقا من تصوّر الإسلام كرسالة للناس، فحواها لائحة بما ينبغي عمله وما ينبغي تركه؛ ومن ثمّ نقّب علماء هذه المدرسة في ’النصوص‘ المتوفّرة – القرآن والأحاديث – ليستخرجوا منها الأحكام والإجراءات لكلّ شخص؛ كلّ موقف؛ كلّ جانب؛ كلّ شيء!
أمّا عن شكل التعبئة packaging فهذه المدرسة تقدّم الدين للمتلقين في شكل ’ممارسة دينيّة‘ practice، لو طبّقتها تدخل الجنّة.
لم تكن الطريقة ’السنيّة‘ هي المحاولة الوحيدة لتجريد الدين، بل هنالك مناهج أخرى، قدّمت الدين في شكل ’روح دينيّة‘، ’مرجعيّة دينيّة‘، وغيرها من أشكال الدين، حسبما كان يتصوّره العلماء الذين تناولوه بالدراسة والتحليل.

فوق كلّ التعقيدات التي واجهت عمليّة تجريد الدين ظهرت كذلك المشاكل المستقبليّة التي علّقنا عليها في جانب اللغة؛ وهي أنّ الدين ’العلميّ‘ هذا أسهل تناولا وتداولا؛ ولهذا بدأ يحلّ تدريجيّا محلّ الطريقة ’الطبيعيّة‘ التي نفترض وجودها لتعلّم الدين. صارت القوالب العلميّة هي المصدر الأساسيّ لتلقّي الدين، ومع ظهور التعليم النظاميّ دخل الدين كوحدة module من الوحدات التي تقدّم للدارسين. لم يكن مفيدا أنّ يسمّوا هذه الوحدة ’التربية‘ الدينيّة؛ فالحقيقة أنّ اسمها ’دين‘، لدى الدارسين والمعلّمين على حدّ سواء.
ولكي نعرف أين يمكن أن نكون وصلنا دعنا نرجع لمثال اللغة: مثل هذا الرسم ’أ‘ لا يعطيّ أيّة معلومة عن معناه، ولا يمت بأيّة صلة لما يرمز له، إلّا في وجود معلومة مسبقة عند المستخدم، تربط الرسم بالصوت. هلّ تخيّلت المشكلة؟

أخيرا دعنا نلفت النظر إلى الدعاوى الكثيرة التي ظهرت وما فتئت تظهر وتدعو إلى ’إحياء‘، ’بعث‘، ’تجديد‘، و’تطوير‘ الدين. مع أنّ هذه الدعاوى تختلف مع بعضها البعض لأقصى الدرجات، إلّا أنّ شيئا واحدا يجمعها، وهو الاعتقاد بأنّ هنالك ’مشكلة‘ في الدين الذي يعيشه الناس. لكنّ كلّ ما وقفت عليه من هذه الدعاوى لم يخرج من إطار تعليب الدين الذي نناقشه؛ بمعنى أنّها تدعو الناس لترك ’العبوّة‘ ’الفاسدة‘ التي بين يديهم، واستبدالها بعبوّة جديدة طوّرها الداعية؛ أو استوردها من مكان أو زمان آخر.
ما البديل إذن؟
هذا هو السؤال الذي نئد به أيّ محاولة للخروج من الحفر التي نقع داخلها.
قد يتّفق معي شخص فيما تقدّم، ويختلف مع البديل الذي أراه، ومن ثمّ يضرب بكلٍّ عرض الحائط؛ لهذا لن أطرح بديلا ههنا، بل سأقول: «في إطار التطبيق لا ترفض الموجود إلا بعد أن توجد البديل؛ أمّا في إطار الفكر فقد لا توجد البديل إلا بعد أن ترفض الموجود».

Posted in Arabic, Religious, Uncategorized | 7 Comments

رأس الغول

بيرسيوس، أندروميدا، ميدوسا، ..؛ ربما مرّ عليك بعض هذه الأسماء من تلك الأسطورة الإغريقيّة القديمة، التي وقّعت أسماءها في عدد من المجموعات النجميّة، كالمرأة المسلسلة وذات الكرسي.
لماذا تستحقّ أسطورة كهذه البقاء عبر القرون؟ لا بدّ أنّ هنالك سرّا ما في بقاء بعض القصص وانقراض أخرى (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ). المتعة والإثارة دائما عنصران مهمّان في قيمة القصص؛ لكن العبرة تمثّل عنصرا هامّا كذلك. في هذا النصّ سنأخذ عبرة مخفيّة في تلك القصّة القديمة، ونستفيد منها في التعامل مع الواقع..

الواقع اليوم في بلادنا يعمل فيه بعض التنظيمات والتيارات التي تحاول بسط نفوذها في مجتمعاتنا التي استقلّت مؤخّرا من سيطرة الاستعمار الأوروبي، لتقع في يد استعمارات فكريّة متنوّعة تحاول استقطاب الشعوب لتحقيق رؤاها. تبنّى بعض هذه التنظيمات سياسة أنّ الغاية النبيلة تبرر وسيلة خبيثة مثل الكذب والخداع.

نعم. لقد مارسوا علينا الخداع في شتى الصور؛ أخبرونا عن عالِمنا الفذّ الذي غالط علماء ناسا، عن ذلك الذي له ثابت باسمه، عن ذلك الذي يتحدّث الانجليزيّة أفضل من الانجليز (سبحان الله!)، عن شركتنا التي بزّت كبرى الشركات الأمريكيّة ..
كثرت المظاريف التي يوضع فيها الناس والأشياء على حدّ سواء، لتحفظ في مكان آمن بعيدا عن متناول الجمهور؛ فهذا رجعيّ، وهذا ليبرالي، وذاك كافر! ليس مهمّا عنوان المظروف، المهمّ أنّ عليه ديباجة ”خطر! لا تفتح“؛ حتى لو كان عنوانه ’قرآني‘ فإنّك تخوّف مما بداخله!!
وانتشرت كذلك الألقاب: ’دكتور‘، ’عالم‘، ’بروفيسور‘، ’مفكّر‘، ’أستاذ‘، ’شيخ‘.. بعضها تعارفيّ وبعضها رسمي، بعضها حقيقيّ ومعظمها وهميّ؛ ووهمي لا اقصد بها مزوّرا بالضرورة، فحتى الألقاب التي تمنحها جهات محترمة، لها خطوات واضحة للحصول على اللقب، لا تضمن بالضرورة الحصول على محتوى اللقب.
ثمّ تمكّنت هذه الأنظمة التي تمتهن التضليل من آلات الإعلام، ومن المؤسسات التعليميّة، فصار الترويج للأكاذيب صنعة منظّمة؛ وصارت صناعة الدمى متقدّمة؛ وانتهى الأمر إلى شبكة تتواطؤ على الكذب، سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم..

كيف نتبيّن الحقيقة في مثل هذا الواقع؟ كيف نرى؟
ههنا نستعير فكرة من تلك الأسطورة اليونانيّة القديمة، إذ كان بطل القصّة بيرسيوس يريد قتل تلك الغول التي تحيل الناظر إليها حجرا؛ كيف استطاع بيرسيوس التعامل معها إذن؟ تجنّب بيرسيوس النظر المباشر إلى الغول، واستعان بدرع مصقول ليرى صورتها، وبالفعل زال أثر السحر عندما نظر من خلال المرآة؛ وتمكّن بطلنا من قطع رأس الغول.
هل كان هذا الدرع مع بيرسيوس بالصدفة؛ كلّا، لقد أعارته إيّاه أثينا، التي كانت تمثّل الحكمة لدى الإغريق.
إذن فيفترض أنّ في الأمر حكمة، وهو فعلا كذلك. نعم؛ فالسحر لا يصنع انعكاسا، ولا يلقي ظلالا، ولا يخدع إلّا بالنظر المباشر له..

هذه هي الفكرة التي يمكن أن تقودنا في عالم كثرت فيه الأباطيل: النظر غير المباشر. لا تأخذ مباشرة معلومة فيها شبهة تزوير أو تحرير: معلومة تبجّل أو تحطّ أحدا، تمجّد أو تبخّس فعلا، تعظّم أو تحقّر شيئا.
لا تنظر مباشرة، بل انظر من زاوية أو زوايا عديدة، وستكتشف أن كثيرا مما تراه هو في الحقيقة لوحات مسطّحة تفتقر للعمق؛ فهذا البروفيسور الفذّ ليس له أيّ مؤلفات، وهذه المؤلفات العديدة ليس لها قُراء، وهذه الشركة الناجحة غارقة في الديون، وهذا العالم الكبير غارقٌ في الجهل..
لا تأخذ شهادة من أحد، فحواليك شبكة من المبطلين يشهدون لبعضهم؛ حتى لو وصلك الخبر ممن تثق فيه، فهل تثق في من أخبره؟ وهل تثق في ثقته في من أخبره؟ إذا أخبروك أنّ فلانا كان علما يشار إليه بالبنان في أوروبا، فاسأل: لماذا رجع إلى السودان؟ إن أخبروك أنّ فلانا لا يشقّ له غبار في مجاله، فاسأل: أين مؤلّفاته؟ إذا سمعت أنّ فلانا كان كافرا، فاسأل: هل أنكر الشهادة؟
كذلك لا تأخذ العبر بشكل مباشر، بل خذها من مصادر غير مباشرة، تصعّب المهمّة على من يريد خداعك؛ فمن قاسمك أنّه لك لمن الناصحين قد يتبيّن أنّه الشيطان الرجيم، بينما قد تتعلّم شيئا مفيدا من مجرّد غرابٍ يبحث في الأرض، أو من أسطورة يونانيّة قديمة!

ختاما: لا تبصر بأذنك، بل انظر بعينك، ولا تنظر مباشرة، بل انظر إلى ما وراء المشهد؛ فلربّما كان كلّ ما تراه لوحة متقنة الرسم.

Posted in Arabic, Political, Social, Uncategorized | 1 Comment

بسم الله

تقديم

ترجع نواة هذه الفكرة لمحاضرة عن فنّ الإدارة، تحدّث فيها المحاضر عن أنّ هنالك تسعة مداخل لعلم الإدارة، لكلّ منها أنصاره، ولكل منها إرثه العلمي. ثمّ ذكر، على سبيل المثال، المدرسة البيروقراطيّة، وعمادها الهيكلة الواضحة والضبط والربط؛ و المدرسة الإنسانيّة، وعمادها روح الفريق وبيئة العمل.. ثم أسهب في الحديث عن المدرسة الوظيفيّة لفهم الإدارة، والتي تتحدّث عن الوظائف الأساسيّة للإدارة، وكيف يمكن تحقيقها. لهذه المدرسة رصيدها العلميّ الخاص، وتستعير كذلك من الإرث العلميّ لبعض المدارس الأخرى في التعامل مع بعض وظائف الإدارة. فكرت حينها في المقابلة بين فهم الإدارة وفهم الدين، إذ أنّه يمكن القول أنّ الدين هو نظام لإدارة الحياة؛ وأنسابت الخاطرة..

نعم؛ فالمدخل الذين استخدموه معنا في المدارس كان فهما بيروقراطيّا للدين، يضع لوائح مفصّلة للأشياء: درسنا عن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستّة، والحدود السبعة، والمبشّرين بالجنّة العشرة؛ درسنا عن الفرائض والسنن والفضائل والمكروهات والمبطلات، عن الشروط والكفّارات.. وبعد أن أكملنا دراستنا كنّا نظنّ أنّه لا ينقصنا في فهم الدين إلّا مزيد من التفصيل!
ثمّ سنحت لي لاحقا فرصة للتعرّف على الصوفيّة، وكانت فرصة قيّمة بحقّ، ليس لأن أصير صوفيّا، ولا لأكفر بالصوفيّة وأوطّن انتمائيّ لأهل السنّة والجماعة، بل لأعرف أنّ هنالك من يرى الدين من منظور مختلف، يسمح برؤية أشياء لا نراها نحن من المنظور البيروقراطي. حقّا أهملت المدرسة البيروقراطيّة (الفقهية) الجانب الروحيّ من الدين، الجانب الذي جعلته المدرسة الإنسانيّة (الصوفيّة) عمود ظهرها؛ وكذلك أهملت المدرسة الصوفيّة الجانب الإجرائي الذي ركّزت عليه المدرسة الفقهيّة.
وبينما اختار محاضرنا المدرسة الوظيفيّة لفهم الإدارة اخترت أنا المدرسة الوظيفية لفهم الدين، تلك التي لم أقرأ عنها، ولم أر من ينهجها..

الموضوع

في هذا المقال أقدّم للفهم الوظيفي للدين، مستهلّا بسم الله. و “بسم الله” المكتوبة في الأعلى هي عنوان هذا الموضوع، وليست عبارة لاستهلاله. نعم؛ هذه العبارة التي يستخدمها كلّ المسلمين، لجلب البركة وطرد الشياطين، ويستخدمونها (مع نبرة من الحماس والرجاء) لدعاء الله والتقويّ به حين الإقدام على عمل شاق، ويستخدمونها للنفاق وأسلمة الأشياء، ويستخدمونها في مواضع أخرى كثيرة؛ هذه العبارة نفسها تبطن بداخلها كلّ الفهم الوظيفي للدين، رغم أننا لا نستخدمها بهذه الروح.

لعلّه مرّ عليك مناسبات عديدة وقفت فيها مخاطبا الناس، أو على الأقل سمعت من يخاطب الناس، مستهلا خطابه “باسم أسرة المرحوم أعلن رفع الفراش..”، أو “باسم الزملاء في الصف الخامس أتقدّم بالشكر للأساتذة الأجلاء..”، أو مثل هذه العبارات. ماذا تعني “بسم”؟ نعم، تعني نيابة عن، تحمل معنى التفويض؛ وبسم الله كذلك تحمل معنى التوكيل الذي منحه الله للبشر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..)، منحه لهم رغم استعجاب الملائكة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، منحه لهم على علم (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ومع التفويض الذي منحه مالك الكون للبشر، أعطاهم صلاحيّات وتسهيلات كبيرة في هذه الكون: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..) وخصّهم بامتيازات (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ). ومع هذا التوكيل تكليف، ففي هذا الآيات من سورة عبس تلخيص مختصر لدورة حياة الإنسان، الأولى منها والآخرة: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)، والحياة كلّها تكون في هذا السبيل الميسر للإنسان والميّسر له الإنسان، مع كلّ الصلاحيات والمخصصات المذكورة؛ لكن (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)، فما هو هذا الأمر الذي أمر الله به الإنسان؟ ما المطلوب من الناس في مقابل كلّ ما أعطوا؟

مع مستوى التفصيل فيها تتوقّع أن يكون هذا السؤال طرح لدى المدرسة البيروقراطية: “ما هي الغاية من خلق الإنسان” والإجابة المعروفة هي “عبادة الله”، استنادا للآية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والتي تذكر هكذا بدون مضمونها الذي يحمل إشارة إضراب في (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). لكن لا بأس، دعنا نتّفق على أن الغرض هو عبادة الله، ثم نسأل “ما معنى عبادة الله؟”. هنا نقف عند لبس كبير، إذ أنّ تسمية ‘العبادات’ في النظام الفقهي ربطت عبادة الله المطلوبة من الناس، ربطتها بالنسك: الصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم فصّل الفقه في هذه النسك ليتمكّن الإنسان من عبادة الله؛ هل هذا فعلا ما أمره؟

هذا السؤال هو المدخل للفهم الوظيفي للدين، والذي لا يرى العبادة نسكاً محددا، بل يراها وظيفة؛ مسمّاها الوظيفي ‘عبد’. فالإنسان عبد لله، شاء ذلك أم أبى، والله هو ربّ العالمين، مالك الكون، وهو الذي استخلف فريقا من عبيده – البشر – لإدارة ما يقع تحت طائلتهم في هذه الأرض وما حولها. وكما في مفهوم الاستعباد الذي مارسه البشر على بعضهم لفترة من الزمان، فمن العبيد المطيع ومنهم الآبق، ومنهم الأمين ومنهم الخائن، ومنهم الشاكر لسيّده ومنهم الكاره له، ومنهم المخلص لسيّده ومنهم المتآمر عليه، ومنهم المفيد ومنهم الكلّ على مولاه..

من المنظور الوظيفي قد نتّفق على أن مهمّة العبد هي العمل على تحقيق مراد سيّده، والسعى لإرضاءه وتجنّب إغضابه، ولكن كيف يكون ذلك؟ كيف نهتدي لما ينبغي في وظيفتنا هذه؟ هذا أيضا جزء من تكليفنا، وربّما هو الذي يميّزنا عن كثير من المخلوقات، التي هي منساقة بسجيّتها لما يريده ربها، بينما الإنسان يعرف المطلوب منه بعقله. وقد ساعدنا الله كثيرا في هذا التكليف، زوّدنا بعقل يميّز، وأعطانا أمثلة كثيرة لما يحبّه وما يكرهه، ما يرضيه وما يغضبه، ما يقبله وما لا يسمح به، وغير ذلك مما فصّله في كتبه وأرسل به رسله، وكلّ ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فلابد دائما من إعمال العقل؛ وإلا (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)

هذا تقديم يلخّص المدخل الوظيفي لفهم الدين، وسيتبعه إن شاء الله تفصيل وتطويل منّي ومن غيري ممن يتبنّى هذه المدرسة؛ فلنبدأ بسم الله، بأنّ نقول بسم الله في كلّ عمل نقدم عليه، وبأنّ نتأكّد عندما نقول “بسم الله” أنّ العمل هو فعلا ما يريده الله، لا ما يريده ربّ آخر، ولا ما تريده نفس خائنة أو دنيئة، تريد أن تستأثر لنفسها بشيء. لعلّ هذا فعلا ما يقرّبنا من الله، ويقرّبه منّا؛ حتى نكون من عباده المخلصين، الذين يقدّمون إرادة ربّهم على إرادة نفسهم، ويرجون الثواب منه بدلا من إثابة أنفسهم؛ حينها يكون الله حقّا سمعنا الذي نسمع به، وبصرنا الذي نبصر به، ويدنا التي نبطش بها، ورجلنا التي نسعى بها.. فإن عزّ علينا ذلك في قول “بسم الله”، فعلى الأقل دعنا نتأكّد حين نقولها أننا مقدمون على عمل يأذن به الله؛ اتّفقنا؟ فلنبدأ بسم الله.

Posted in Arabic, Religious, Uncategorized | 1 Comment

في مسألة الغناء

تقديم

مررت قبل أيّام على ورقة في إحدى اللوحات تتحدث عن حرمة الغناء و استهانة الناس بها، فكان أن رَجَعَت بي هذه الورقة عقداً من الزمان، إلى حينما سمعنا أول مرّة عن حرمة الغناء من أستاذنا في المرحلة الثانوية. أثار ذاك الحديث نقاشاً واسعاً بين الزملاء فبدأنا نبحث و نقرأ و نناقش، و بحقّ فقد استفدت كثيرا من النقاش في هذه المسألة، في فهم بعض مصطلح الحديث، و في الوقوف على بعض الأحاديث.. على كلّ فقد نالت هذه المسألة نصيباً مقدراً من البحث و النقاش بين زملائنا طوال عشر سنوات، فمن الحقّ إذن أن أنقل إلى الزملاء ما خلصنا إليه..

المضمون

مجمل ما أقول في مسألة الغناء هذه هو: كيف يكون لامرئ أن يقطع بحرمة شيء أقرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعله أمامه غيرما مرة؟ فيما يلي أعرض بعض الأحاديث لتستخلص منها أخي القارئ ما تستخلصه، ثم أناقش بعض ما استند إليه من قال بالتحريم، ثم أكتب خلاصة ما خرجت به في هذه المسألة.

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ جَاءَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم فَدَخَلَ حِينَ بُنِي عَلَى فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِى يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ فَقَالَ دَعِى هَذِهِ وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ (البخاري)

و في الحديث ما فيه في قولها ”فجلس على فراشي كمجلسك مني،“ لكنّ هذه مسألة أخرى؛ المهمّ أنه وقع الغناء في صبيحة زواجها، و حضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، و وعى كلماته فاستدرك عليها.

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ (البخاري)

”يعجبهم اللهو“ هي بلغتنا: ”يحبون الطرب“! أم ماذا ترى؟ و للحديث روايات أخرى فيها ما فيها من الفوائد، مثل أنّ غناءهم قريب من بعض أغنيات ’السَيرة‘ في أعراسنا، فأنصح بالرجوع إليه في فتح الباري؛ أما هنا فأكتفي بما قلّ و دلّ: لو كان الغناء مجرّد رخصة تجوز مع الكراهة في مواضع خاصة، هل كان صلّى الله عليه وسلّم يستدرك على عائشة رضي الله عنها إذ لم تأخذ برخصتها! تعجّب من كلامي كما شئت، و لكن توخَّ الإنصاف.

عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِى صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ – أَوْ أَضْحًى – وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ – مَرَّتَيْنِ – فَقَالَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ (البخاري)

سنعود لهذا الحديث في الفصل التالي؛ فقط أعلّق هنا أن إمامنا في الحي قد قال قبل هذا في خطبة العيد ما مفاده أن من عصى الله صلّى الله عليه وسلّم يوم العيد فكأنمّا عصاه يوم الوعيد، ثم نصح الناس باجتناب المحرمات أيام العيد كالغناء و نحوه! أقول: لو كان الغناء حراما فالثابت جوازه أيّام العيد وفق هذا الحديث.

(عن عائشة) وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِى وَرَاءَهُ خَدِّى عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ فَاذْهَبِى (البخاري)

”دونكم يا بني أرفدة“ يعني ’واصلوا‘ كما شرحوها، و سبب هذا القول يظهر في إحدى روايات الحديث أن عمر رضي الله عنه لما رآهم ’يزفنون‘، أي يرقصون في المسجد همّ أن يحصبهم بالحجارة، فأمنّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذا طبعهم، و طبعنا كذلك، فبنوا أرفدة هم الحبش، و في الرواية أعلاه ”السودان“! أما في رواية للترمذي:

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم جَالِسًا فَسَمِعْنَا ‏‏لَغَطًا ‏وَصَوْتَ صِبْيَانٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ ‏‏تَزْفِنُ ‏وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ يَا‏ ‏عَائِشَةُ ‏تَعَالَيْ فَانْظُرِي فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ ‏لَحْيَيَّ ‏عَلَى‏ ‏مَنْكِبِ ‏‏رَسُولِ اللَّهِ‏ صلّى الله عليه وسلّم ‏فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ ‏الْمَنْكِبِ‏ ‏إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ لِي أَمَا شَبِعْتِ أَمَا شَبِعْتِ قَالَتْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لاَ لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ ‏عُمَرُ ‏قَالَتْ ‏ ‏فَارْفَضَّ ‏‏النَّاسُ عَنْهَا قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ قَدْ فَرُّوا مِنْ ‏عُمَرَ ‏‏قَالَتْ فَرَجَعْتُ (الترمذي)

هكذا في الترمذي، و قد أوردته كاملا و أنا أعلم ما سيقول قائل عن شياطين الأنس و الجن، لكنّه ليس مهمّا، و لا مهمٌّ ما فهمته أنا، المهمّ ما تفهمه أنت أخي القارئ الكريم؛ أما ’تزفن‘ فمعناها ’ترقص‘!

نظرة ثانية

إذن فمن أين استخلص كثير من الناس حرمة الغناء؟ نريد أن نمر على بعض ما استندوا إليه، و ننصح كذلك بقراءة كلام الأمام ابن حزم في المحلى عن هذه المسألة.

الآيات

احتجوا على حرمة الغناء بثلاث آيات. قبل كلّ شيء ألفت نظر الجميع إلى أنّ هذه الآيات الثلاث مكية، فهل حُرّم الغناء قبل تحريم الخمر؟ كيف؟! و لأنيّ أعلم أنّ هنالك من سيقول: ”هذا لأنّ الغناء أضرّ على المجتمع من الخمر، فالخمر تؤذي فرداً، و هذا يؤذي مجتمعاً ..“ لذلك سأناقش دلالة هذه الآيات بتفصيل:

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) (الإسراء 64)

’بصوتك‘ قيل هو الغناء. نعم الغناء مدخل للشيطان، مثله في هذه الآية مثل الأموال و الأولاد و السلطان و الأماني! هل هذه حرام؟ هي كمثل قوله عزّ وجلّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال 28).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان 6-7)

عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه أقسم أنّه الغناء. هل الوعيد بالعذاب لأنهم اشتروا لهو الحديث، غناءً أو غيره، أم لأنهم يضلون عن سبيل الله و يتخذونها هزواً؟ قارن مثلاً بقوله عزّ وجلّ (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (المجادلة 16) أمّا معنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه فقد يتبيّن لك بتجميع الروايات في تفسير هذه الآية: نعم نزلت هذه الآية في من أراد أن يصدّ عن سبيل الله بالدعوة لسماع القيان، و الله أعلم؛ هذا ما وقفت أنا عليه، و الأفضل عندي أن تقرأ هذا بنفسك لأجل الفائدة الأكبر، و لتطلعنا جميعاً على ما وقفت عليه.

(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم 59-62)

عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ’سامدون‘ هي في الحميرية ’تغنّون‘. و الآن ضعها محلها: هل يفيد هذا أبداً حرمة الغناء؟ لكان الضحك محرّماً كذلك! و الواضح لي في هذه الآيات نقد حالهم حال قراءة القرآن: لاهية قلوبهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت 26)

هذا كل ما هنالك! و الله عزّ وجلّ أمر بتدبّر آيات كتابه في غيرما موضع، و أنت ترى كيف يستخلص الناس أحكامهم من الآيات. نسأل الله التوفيق و السداد.

الأحاديث

باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِى قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِى وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى سَمِعَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ – يَعْنِى الْفَقِيرَ – لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (البخاري)

أنصح كثيرا بالرجوع إلى شرح هذا الحديث في فتح الباري؛ ستجد فيه فوائد كثيرة. أما فيما يلينا ههنا أقول بأنّ استخراج حكم من الحديث قد يحتاج إلى قراءته من وجوه (مساقطجوانب) عديدة حتى يتسنى ضبطه، لأن عين ألفاظ الحديث لا يمكن الجزم بها؛ مثلا في الحديث المذكور من هو القائل ”يعني الفقير“ من رجال الإسناد. و قد وقع عين هذا الحديث عند إبي داود دون ذكر المعازف، و ذكر ’الخزّ‘ مكان ’الحِرَ‘! و في رواية ضعيفة الإسناد (ليشربنّ أناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف)، و لكنّ هذه الرواية الأضعف إسناداً هي التي بنى عليها البخاري ترجمة الباب كما ترى.

عَنْ ‏ ‏ عَائِشَةَ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ‏‏قَالَتْ: دَخَلَ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏‏وَعِنْدِي ‏جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي ‏ ‏الْأَنْصَارِ ‏‏تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ ‏‏الْأَنْصَارُ يَوْمَ ‏بُعَاثَ ‏‏قَالَتْ وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَقَالَ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏يَا ‏أَبَا بَكْرٍ ‏إِنَّ ‏لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا (البخاري)

ما أبغض العصبية! لكي يثبت الناس قولهم بتحريم الغناء تجشّموا قول ما لا يليق: ”أقرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر و لم ينكر عليه تسمية ’مزمور الشيطان‘“! يا قوم، أيعقل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”آآي هو مزمور الشيطان لكن خليهم الدنيا عيد“؟! الثابت في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا يجامل أحدا في معصية الله، فالثابت بذلك أن فعل الجاريتين لم يكن حراماً و لا إثماً. و قد تعلّلوا بلفظ ’جاريتان‘ و ’ليستا بمغنيّتين‘.. كما أسلفنا فإنّ عين ألفاظ الحديث لا يمكن الجزم بها، فقد نقلناه أعلاه من موضع آخر في الصحيح برواية فيها ’قينتان‘.

إذن فلماذا أنكر أبوبكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها؟ قد نفهم هذا إذا تخيّلنا المنظر، و ترجمنا العبارات بالعامية. تخيّل أنّك دخلت أنت فوجدت ابنتك و معها فتاتان تغنيّان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. لكنت قلت: ”يا بت الكلب، بِتغنّوا في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم“! أما قوله ’مزامير الشيطان‘ فإنّ الصدّيق رضي الله عنه ترك سبعين باباً من الحلال مخافة الوقوع في الشبهات؛ فما يدريك لعلّ الغناء منها؟ هو يعلم (وبعضنا يعلم) أنّ الغناء مدخل للشيطان يلهي به القلوب.. سنكمل هذا بعد قليل؛ على أنّه يبدو أنّ استخدامهم لكلمة الشيطان فيه بعض المجاز أحيانا، و الله تعالى أعلم؛ و إلاّ فمن إذن شياطين الأنس في حديث الترمذي المتقدّم؟ و أنظر مثلا إلى هذا الحديث:

خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم‏ ‏فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ ‏‏جَارِيَةٌ ‏سَوْدَاءُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ ‏نَذَرْتُ ‏إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ ‏وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏إِنْ كُنْتِ ‏‏نَذَرْتِ‏ ‏فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلاَ فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ فَدَخَلَ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ ‏عَلِيٌّ ‏وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ ‏عُثْمَانُ ‏‏وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ ‏‏عُمَرُ ‏فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ ‏اسْتِهَا‏ ‏ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا ‏‏عُمَرُ ‏‏إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ ‏‏عَلِيٌّ ‏وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ ‏عُثْمَانُ ‏‏وَهِيَ تَضْرِبُ فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا ‏‏عُمَرُ ‏أَلْقَتْ الدُّفَّ (الترمذي)

و المعلوم أنّ النذر بحرام لا يؤدَّى، أمّا منعه صلّى الله عليه وسلّم لها إن لم تكن نذرت فمفهوم لو تخيلت المنظر، و تخيّلت فيه شخصا كبير المقام؛ دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. و أمّا ذكر الشيطان فلعل معنى ”إنّ الشيطان“ هو ’حتى الشيطان‘، و الله تعالى أعلم، و قد قصدت إثباته هنا ليفهم كلّ شخص ما يفهم، لكن استحضر في فهمك أيضا هذا الحديث:

اسْتَأْذَنَ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْهُ ‏‏عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ ‏‏قُرَيْشٍ ‏‏يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ ‏‏عُمَرُ ‏تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم ‏يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏فَقُلْنَ إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏إِيهٍ يَا ‏‏ابْنَ الْخَطَّابِ ‏‏وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ‏‏مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ (البخاري)

و انظر كذلك لقول عمر رضي الله عنه لأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”يا عدوّات أنفسهنّ“ لعلّك تفهم منه قول أبي بكر رضي الله عنه. بقيّة الأحاديث التي أذكرها مما احتجّوا به في تحريم الغناء في صحتها نظر، و لن أتطرق لها ههنا، بل أكتفي بإرشاد الباحث لأن يقرأ كلام الإمام الحافظ ابن حزم الأندلسي في ذلك (المحلّى بالآثار: كتاب البيوع، مسألة بيع آلات اللهو).

أقوال الفقهاء

و من أقوال الفقهاء أختار قول مالك و الشافعيّ، على ما اعتاد عليه القائلون بالتحريم. أمّا مالك فلم أقف على قول له إلا فيما ينشره من يقولون بتحريم الغناء أنّ مالكاً سئل عن الغناء فقال: ”إنمّا يفعله عندنا الفساق!“ يالِحرص مالك و احتياطه؛ و يالِذكائه في نهو الناس و تنفيرهم مما ينكره و يحذّر منه، دون أن يتجشّم القول بتحريم شيئ برأيه؛ و قد وقفت على قول له: ”لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا“ (القرطبي: النحل 116). أمّا اليوم فإنّهم يصنعون ذلك، و يقولون: ”الكراهة عند مالك تعني التحريم“: يكلفون الإمام ما احترز منه!

كم مرّة سمعتهم يطلقون إجماع السلف في تحريم الغناء؟ إليك لفظ الشافعيّ، الذي كان يكره الغناء لقدحه في اللياقة و المروءة: ”(قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي الرَّجُلِ يُغَنِّي فَيَتَّخِذُ الْغِنَاءَ صِنَاعَتَهُ يُؤْتَى عَلَيْهِ وَيَأْتِي لَهُ، وَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ مَشْهُورًا بِهِ مَعْرُوفًا، وَالْمَرْأَةُ، لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يُشْبِهُ الْبَاطِلَ، وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ هَذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى السَّفَهِ وَسُقَاطَة الْمُرُوءَةِ، وَمَنْ رَضِيَ بِهَذَا لِنَفْسِهِ كَانَ مُسْتَخِفًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا بَيِّنَ التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ لاَ يَنْسُبُ نَفْسَهُ إلَيْهِ، وَكَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِأَنَّهُ يَطْرَبُ فِي الْحَالِ فَيَتَرَنَّمُ فِيهَا، وَلَا يَأْتِي لِذَلِكَ، وَلَا يُؤْتَى عَلَيْهِ، وَلَا يَرْضَى بِهِ لَمْ يُسْقِطْ هَذَا شَهَادَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ…“ إلى أن قال: ” وَهَكَذَا الرَّجُلُ يَغْشَى بُيُوتَ الْغِنَاءِ ، وَيَغْشَاهُ الْمُغَنُّونَ إنْ كَانَ لِذَلِكَ مُدْمِنًا ، وَكَانَ لِذَلِكَ مُسْتَعْلِنًا عَلَيْهِ مَشْهُودًا عَلَيْهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سَفَهٍ تُرَدُّ بِهَا شَهَادَتُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقِلُّ مِنْهُ لَمْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَتُهُ لِمَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَيِّنٍ.“ (كتاب الأم: كتاب الأقضية: ما تجوز به شهادة أهل الأهواء.)

خلاصة

ختاما أنقل إليك أخي القارئ خلاصة ما خرجت به أنا بعد النقاش الطويل في مسألة الغناء هذه؛ على أنّ المهمّ ما تخرج به أنت بنفسك.

أوّلا: خير ما نصف الغناء بوضعه مع ما يشابهه: الغناء ينتمي لمجموعة فيها الشعر و المزاح و اللعب و يلحق بها مشاهدة التلفاز و الاستماع إلى الراديو و نحوها من خيارات الترفيه: مناشط يتناولها الناس في الحياة الدنيا، فيها المنفعة و فيها الضرر؛ فينبغي إذن تناولها بحذر. أمّا المنفعة فأقلّها ما فيها من المتعة، و أمّا الضرر فأقلّه ما تُرِك لأجلها؛ هذا بمفهوم اقتصاديّ تفهمه أخي القارئ المهندس، و هو مفهوم الفرصة الضائعة.

ثانيا: يكمن الشيطان خلف هذه الأشياء لعلّة مشتركة أنّها تلهي و تغيب العقل قليلا أو كثيراً؛ فينبغي الحذر منها. و التحذير من شيء لا يعني الحكم بحرمته، فالله تعالى حذّرنا من أزواجنا و أولادنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن 14-15)

ثالثا: قول مالك ”إنّا يفعله عندنا الفساق“ حقّ أنّه لازال يفعله عندنا الفساق في غالب الأحيان، فتجد مجتمع المغنين و العازفين يرتبط كثيرا بالسكر و العربدة، و كذلك مجتمع اللاعبين (كفر و وتر!). لكنّ هذا لا يعني حرمة هذه الأشياء في جنسها، فمثلا بينما نزّه الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن تعاطي الشعر: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) (يس 69) و بينما ذمّ الشعراء (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء 224-226) فإنّه تعالى استثنى من ذلك الصالحين: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا …) (الشعراء 227).

رابعا: خير ما نفهم حكم الغناء بقياسه على الشعر: تجد في البخاري ”‏أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم‏ ‏قَالَ ‏إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً“ و تجد بعده بقليل: ”‏عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم ‏قَالَ ‏‏لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا“! و خير ما توفق بين هذه الأحاديث بالتريّث و ترك العصبيّة، هي مفهومة ببساطة، و كلّ شخص يستطيع شرحها إذا توقف عن النظر إلى الأحاديث على أنّها لائحة محرّرة للحلال و الحرام، و نظر إليها على أنّها سرد لوقائع نفهم منه عبرا و معاني. و بالمناسبة وقفت أثناء تحرير هذا المقال على نص لهذا الحديث عند مسلم: ” ‏عَنْ ‏‏أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ‏قَالَ بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏بِالْعَرْجِ ‏‏إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم ‏‏خُذُوا الشَّيْطَانَ أَوْ ‏‏أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ ‏لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا“! فما تدري لعلّ هذا ’الشيطان‘ كان ينشد شيئا من شاكلة ’البنسلين يا تمرجي‘ أو نحوه مما ينتقد حتى عند من يستمع الغناء. على كلّ فقد حكوا الاتفاق على أنّ الشعر ليس حراماً، فلم يقولوا أنّ رسول صلّى الله عليه وسلّم الله لم يقرّ من قال بل قال هو بلسانه للشاعر شيطانا.

خامسا: لكي نخطو للأمام أرجو من الزملاء أن يتركوا قول ما لا معنى له، مثل أنّ ”الدف ليس من المعازف“، و أنّ ”الغناء يجوز فقط في العيد و من البنات الصغار“. كفّوا عن هذه الظاهريّة؛ أو أقرّوا بها علنا.

أخيرا: لكلّ مقام مقال! الغناء سُمِح لعائشة رضي الله عنها ’الحديثة السنّ الحريصة على اللهو‘، و أنكره أبو بكر رضي الله عنه الذي ما غاب عن ذكر الله عزّ و جلّ؛ و سُمِح بندب آباء الرُبيّع، و أُنكر نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعرفة الغيب؛ و سمح بالرقص للحبش، و أنكره عمر؛ و ندب الغناء للأنصار الذين ’يعجبهم اللهو‘، و لم يخطر ذلك لعائشة رضي الله عنها. و لدينا نحن كذلك يرقص الشباب، و ننكره على من كبر سنه أو مقامه؛ و نسمع ”يا قماري“، و ننكر ”البنسلين يا تمرجي“؛ و يرقص الشايقية رقصا قد ينكره الجعليّون. الأفضل لو تركنا الإفتاء جزافا بالتحريم و التحليل: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل 116) و أعملنا فينا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ لَكُنّا من المفلحين!

ختاما: لا تتسع قناة لوحة الإعلانات لبثّ كلّ شيء و نقل كلّ وجهة نظر في هذه المسألة، فأرجو أن يكون ما كتبته هنا مفيدا. و أنا على استعداد لسماع أيّ استدراك أو نقد أو نصيحة أو معلومة؛ و قد تركت اسمي و رقم هاتفي أدناه.

Posted in Arabic, Religious | Tagged | 1 Comment

المعرفة الكامنة

تنبيه: إن كنت مستعجلاً فيمكنك أن تجتاز التقديم و تنتقل إلى النصّ الأساسيّ مباشرة.

في الرسم العلوي إلى اليسار ترى مسارين بين نقطتين. هل تجد أيّ مبرّرٍ لأن يترك شخص المسار المستقيم و يسير في المسار المنحني؟ ”في هذا الرسم لا أجد، فالمسار المستقيم يبدو أقصر من المسار الآخر.“ هذه إجابةٌ جيّدةٌ و حذرة، فالاطّلاع على أيّة معلومةٍ إضافيّةٍ قد يغيّر حكمنا؛ مثلاً:

  • أوّل ما قد تفكّر فيه و قد اجتزت الرسم الهندسيّ هو: ‏”هل المسار المتّصل فعلاً أقصر من المسار المتقطّع؟“ و بالنظر إلى المسقط الجانبيّ قد تكتشف أنّ المسار المتصّل هو الأطول كما يوضّح الرسم الثاني.
  • كمثالٍ عمليّ للنقطة السابقة ترى في الرسم الثالث خريطةً كنتوريّةً يتّضح فيها المساران. هنا ترى أنّ السير في خطّ مستقيم يتضمّن صعود الجبل الذي يلتف حوله المسار المنحني. أيضاً في نفس الخريطة لك أن تتخيّل خطّ الكنتور المنطبق على المسار المنحني شاطئاً لنهرٍ، حينئذٍ قد نفضّل الإبحار على السير برّاً لنقل بعض البضائع مثلاً.
  • سببٌ آخر مختلفٌ تماماً يتضّح من الخريطة المدنيّة في الرسم الأخير. هنا يسافر الشخص المعنيّ من ’أكا‘ و يتزوّد بوقودٍ و مؤنٍ إضافيّةٍ من السوق في ’أتا‘، ثمّ يزور بعض أقاربه في ’أدا‘ قبل أن يتجه إلى وجهته الأساسيّة، ’أيا‘. كان في إمكانه إن يسلك الطريق المباشر إلى أيا، لكنّه فضّل أن يستفيد من منافع إضافيّةٍ في الطريق الطويل.
  • يمكنك أن تعدّد أمثلة كثيرة أخرى. مثلا يمكن أن تكون ’أكا‘ و ’أتا‘ و ’أدا‘ و ’أيا‘ محطّاتٍ للمواصلات، و إن يكون الشخص المعنيّ سائق مركبةٍ عامّةٍ يفضّل الطريق الطويل على الطريق الخالي من الركّاب. كذلك يمكن أن يكون اختيار الطريق الطويل لتجنّب الحفر و المطبّات في الطريق القصير. و ربّما كان الطريق القصير مزدحماً فأصبح أطول باعتبار الزمن.
  • هنالك مثالٌ آخر يهمنّا كثيراً، و هو أن يكون الطريق الأطول جميلاً تحيط به الأشجار و المناظر من جانبيه، و الطريق الأقصر مملاًّ يقطع صحراء جرداء. هنا يكون الكسب في السير في الطريق الأطول معنويّاً لا مادّياً.
  • في مقابل كلّ هذا هنالك احتمال عدم وجود مبرّرٍ مقبولٍ للسير في الطريق الطويل: أن يكون الشخص سار فيه ’كِدَه‘! هذه حالة تحدث كثيراً، فلا ينبغي إهمالها..

كَيْفَ أمكن تخطيط هذه الكلّيّة بدون أيّ اعتبارٍ لأيّة خرائط أو مخطّطاتٍ؟؟!! لا الوضع الاجتماعي للطالب و لا وضعه الاقتصاديّ و لا حالته النفسيّة و لا المعنويّة و لا العاطفيّة (في جامعة مختلطة!) و لا رغباته و لا مزاجه و لا اعتباراته الدينيّة.. كلّ هذا لا يؤخذ في الاعتبار؟؟!! ماذا بقي إذن؟؟!! لديّ إجابةٌ على هذه الأسئلة، و لديك إجابةٌ، و ننتظر إجابةً من هيئة التدريس، أو الجهة المسئولة أيّاً كانت؛ لكنّنا لن ننتظرها طويلاً: لَسْنَا نريد الآن أن نحاسب أحداً أو نعاقبه. لن يفيدنا تبادل اللوم كثيراً. كلّ ما نريده الآن تعليمٌ أفضل من أجل مجتمعٍ أفضل. الآن نواصل ما بدأناه في الورقة السابقة من مناقشة بعض المفاهيم الهامّة في التعليم..

(6) أسلوب التعليم‏

الأسلوب المُعتمَد عليه في التعليم في هذه الكلّيّة هو التلقين: يمثّل الأستاذ منبعاً للمعرفة و يمثّل الطالب مصبّاً لها و تمثّل المحاضرات قناة نقل المعرفة. فلنسرد بعض أوجه قصور هذا الأسلوب:

  • المعارف الصالحة للنقل بهذه الطريقة تكاد تنحصر في المعلومات المجرّدة، فكثيرٌ من المعارف كالخبرة و الفنون و الأساليب و التربية الوظيفيّة قد يتعذّر نقلها بهذه الطريقة. حتّى المعلومات تصل إلى الطالب ميتةً خاليةً من أيّ عمقٍ أو إحساسٍ أو ارتباط.
  • لأنّ الطلاب جميعاً يتلقون المعرفة عبر نفس القناة فإنّ حجم المعارف المتداولة في الكلّيّة كلّها يكون صغيراً، كما ترى في الواقع أمامك.
  • التلقين يفرض المعرفة عند الطلب التي ناقشناها من قبل، و اجتماعهما معاً يؤدّي إلى واقعنا الجميل هذا. مثلاً لو نسي الأستاذ أن ينقل معلومةً ما للطلاّب فمن (ما) ذا يذكّره؟ و لو أعطى معلومةً خاطئةً فمن (ما) ذا يصحّحه؟
  • ليس هنالك معالجةٌ لحالةٍ مثل: المنبع لا يملك المعرفة المطلوبة.
  • ليس هنالك معالجةٌ لحالةٍ مثل: المصبّ يملك المعرفة المطلوبة؛ فالطالب مثلاً ملزمٌ بحضور المحاضرة حتّى لو لم يكن فيها أيّ جديدٍ بالنسبة له.
  • ليس هنالك استفادة من حالةٍ مثل: المصبّ يملك معرفةً أكبر من المنبع؛ اتّجاه المعرفة دائماً واحدٌ.

هنالك عدّة بدائل للتلقين (لن نفصّل فيها) تعتمد على فلسفة يمكننا أن نسمّيها ’المعرفة الكامنة‘. الفكرة تتلخّص في أنّ نفس المعرفة المطلوبة عند المتعلّم يمكن الحصول عليها من مصادر متباينةٍ: يمكن أن نجعله يستخرجها (يستنبطها) من عقله، يتعلّمها من كتابٍ، من زميله، من الأستاذ، من تجاربه.. مثلاً العمل الجماعيّ يمكن أن يتعلّمه الطالب من مشروع التخرّج و يمكن أن يتعلّمه من خلال اللعب في فريق الكلّيّة! و مهارة الاتّصال يمكن أن يتعلّمها من خلال السمنارات و يمكنه تعلّمها من خلال المشاركة في أنشطةٍ طلاّبيّةٍ محضةٍ. هيئة التدريس في هذه الحالة لن تمثّل منبعاً للمعلومات (فحسب) بل تمثّل إدارةً (كنترول!) تتحكّم في تدفق المعرفة في النظام كلّه، و توجّه الطالب باتّجاه المصدر الأقرب و/أو الأنسب للمعرفة المطلوبة. يمكننا أن نلاحظ الميزات التالية في هذه الفلسفة:

  • تعالج أوجه القصور في التلقين المذكورة آنفاً.
  • مصادر المعرفة المتباينة تعطي المعرفة في مضامين (Contexts‏) مختلفةٍ يمكن للإدارة أن تختار الأنسب منها.
  • هذه الأنظمة تناسب المعرفة عند الحاجة، و قد ناقشنا من قبل ميزتها على المعرفة عند الطلب.
  • يمكن أن تكون بيئة التعلّم حقيقيّةً بدلاً من أن تكون محاكاةً (‏Simulated‏)، و عندها يمكن أن تتحوّل المؤسّسة التعليميّة إلى جهةٍ منتجةٍ بدلاً من أن تكون مستهلكة؛ فيمكن مثلاً إعادة تخطيط الكلّيّة في شكل مؤسّسةٍ هندسيّةٍ ذات هيكلٍ وظيفيٍّ يمثّل الطلاّب فيها مهندسين و موظّفين تحت التدريب. و لك أن تتصوّر الأثر المعنويّ لشعور الطالب حينئذٍ بأنّه يكتب تقارير حقيقيّةً و يؤديّ عملاً حقيقياً سينتج عنه ربحٌ أو يستفيد منه أحد.
  • تعتمد هذه الأنظمة على الفرح بالأداء الجيّد و الرضا عن النفس كقوّةٍ دافعةٍ. راجع الورقة السابقة.
  • ترتبط هذه الطريقة بشدّةٍ بالنشاط؛ و لن نقول هنا عن النشاط إلاّ أنّه مطلبنا الذهبيّ.

في نهاية هذه الورقة نقدّم الملاحظات التالية:

  • تحدّثنا عن ’المعرفة‘ دون ضبطٍ للمصطلح، و هي تشمل هنا المعلومات و الخبرات و الفنون و المهارات.. كلّ ما يمكن تعلّمه.
  • ليسمحْ لي القارئ بأن أصف التعليم بالتلقين في الجامعة بأنّه فكرةٌ ساذجةٌ بنيت على افتراض أنّ وجود ركام من المعلومات لدى الطالب كافٍ لتحقيق المعرفة المطلوبة. و إذا كان هدف التعليم العالي هو التربية الأكاديميّة و المدنيّة فالتلقين لا ينفع. أمّا أقلّ ما يمكن أن يقال في حقّه فهو أنّ التلقين لا يناسب الجامعة التي يعتمد عليها القُطر في إعداد قادة المجتمع.
  • المعرفة الكامنة ليست نظاماً معيّناً بل هي فلسفةٌ يمكن أن يبنى عليها عددٌ من الأنظمة التعليميّة. و إذا استطعت أن تربط الأمثلة المذكورة في مقدّمة هذه الورقة بالنصّ الأساسيّ فستتضح لك معالم الفكرة.
  • ليس من الضروري اقتلاع أسلوب‏ التلقين لبناء نظامٍ قائمٍ على المعرفة الكامنة. فلو استطعنا توفير مساحةٍ مريحةٍ للنشاط فسيكون في الإمكان إنشاء نظامٍ قائمٍ على المعرفة الكامنة يوازي النظام الرسميّ في الكليّة، أقلّ ما يقدمّه للطلاّب من معرفة المهارات الوظيفيّة و مهارات الاتّصال.
  • رغم الصياغة الأدبيّة، و رغم التقديم الطويل، أعتبر هذه الورقة من أفضل و أهمّ ما كتبت.

يا بحراً تجاوز في سكونه كلّ حد! ربّما تكون هذه آخر ورقةٍ أنشرها في هذه الكلّيّة. أرجو أن أكون قد وفقت في شرح فكرتي في هذه الورقة و غيرها؛ رغم أنّني لم أتمكّن من قول كلّ ما أردت قوله. سأحاول إن شاء الله أن أجمع كلّ ما نُشِر في كتيّبٍ صغيرٍ. أرجو أن تجد هذه الأفكار من يتبنّاها، يناقشها، يفنّدها، ينفّذها..‏

Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | Leave a comment

خيارات وبدائل

ناقشنا من قبل عدداً من مظاهر الخلل في تخطيط هذه الكلّيّة نرجو أن يكون كافياً لإقناع الجميع بضرورة مراجعتها جملةً، ثمّ أشرنا بعد ذلك إلى أنّ تحقيق المصلحة العامّة هو هدف جميع مؤسّسات القطاع العامّ. فالوقت مناسبٌ الآن لمناقشة بعض المفاهيم التي تبنى عليها فلسفة مؤسّسةٍ مثل كلّيّة الهندسة و العمارة. فيما يلي نتحسّس بعض هذه المفاهيم من الواقع و نقارنها ببعض البدائل.

(1) الحاجة للتعليم

يمكنك أن تستشعر من الواقع أنّ المفهوم السائد أنّ الطالب هو المحتاج الوحيد للتعليم، و هو المسئول عن فشله، لأنّه هو الخسران الوحيد؛ كأنّما تقول الكلّيّة للطالب: ”دي طريقتنا كِده كان ما عاجبك سيب الجامعة!!“ و المؤسف أنّ كثيراً من الطلاّب تنقطع صلتهم المعنويّة بالجامعة و يصبح وجودهم و حضورهم مجرّد استجابةٍ للضغوط الاجتماعيّة. بهذا الأسلوب الأحمق يخسر السودان كلّ عامٍ آلاف الطلاّب (في مختلف الكلّيّات و مختلف الجامعات) الذين أُنفق على تعليمهم لأكثر من عشر سنواتٍ. و حتى لو لم يُنفَق على تعليمهم فإنّ عقولهم وحدها ثروةٌ مهدرة. حتى الذين يجارون طريقتهم هذه ينتظرون اليوم الذي يتخرّجون فيه ليهربوا خارج البلد.

النظرة التي نراها سليمةً هي أنّ المجتمع محتاجٌ للخرّيج، و على هذا تكون فلسفة كلّيّة الهندسة مثلاً: ”دفع المصلحة العامّة من خلال مدّ المجتمع بمهندسين مبدعين ناجحين..“ بدلاً من أن تكون: ”دفع المصلحة العامّة من خلال تقديم دراسةٍ هندسيّةٍ جيّدةٍ لألفي طالبٍ من أبناء المجتمع..“ و الفرق بين الاثنين كبيرٌ جدّاً. و الغريب أنّ النموذج الأخير – و هو المطبّق حاليّاً كما يقول الواقع – كان ينبغي له أن يكون أكثر حرصاً على رضا و سعادة الدارسين، و لكن من يكترث! أمّا في نموذجنا المطلوب فإنّ رضا و سعادة الدارسين جزءٌ تكميليٌّ ضروريٌّ لأنّنا نحتاجهم. و كذلك يمكن أن يدخل ضمن مراعاة المصالح الخاصّة للأفراد عند التخطيط للمصلحة العامّة، إذ أنّ حاجة المجتمع للطلاّب لا تبرّر إهمال رضاهم و سعادتهم أو جرَّهم في الشوك.

(2) قيمة النجاح

تعليم الطلاّب يمكن أن يتمّ في بيئةٍ حقيقيّةٍ أو محاكاةٍ (‏Simulated‏)، و الأخير هو الغالب عندنا، أمّا اختبار الطلاّب فيتمّ غالباً في بيئةٍ محاكاةٍ، لضرورةٍ أو لأخرى، و تكون النتيجة الإيجابيّة للاختبار من شاكلة: ”وصلته الفكرة“ أو: ”قادرٌ على الإبداع“ أو: ”قادرٌ على النجاح.“ و هذه مؤشراتٌ تهمّ المؤسّسة التعليميّة ثمّ المؤسّسة المخدّمة فيما بعد أكثر ممّا تهمّ الطالب. و إن صحّ ظنّي فهذا هو السبب في حجب نتائج كثيرٍ من الاختبارات عن الطالب. لا أقول أنّ هذه هي السياسة الأفضل، و بالتأكيد لن تكون الأفضل إن لم نكن ندرك بالضبط كلّ ما نفعله. ملخّص ما أردت قوله أنّ القيمة المعنويّة لدى الطالب للنجاح في بيئة محاكاةٍ يجب ألاّ تكون كبيرةً لدرجةٍ تؤثّر تأثيراً بيّناً على عمليّة التعليم نفسها. لشرح المفهوم نذكّر بمبدأ الشكّ: «ليس من الممكن تعيين مكان و كميّة تحرّك إلكترون بدقّة في نفس اللحظة،» و اعتمد هيزنبرج في برهانه على أنّ أيّ محاولةٍ للقياس في نظامٍ تحدث اضطراباً في هذا النظام، فمثلاً لتحديد مكان إلكترونٍ برؤيته ينبغي أن ينعكس فوتونٌ على هذا الإلكترون، لكنّ اصطدام الفوتون بالإلكترون يؤثر في كميّة تحرّك الأخير فيعطي نتائج مضلّلة.. و لأنّ أشياء مشابهةً تحدث كثيراً للطلاّب عند اختبارهم فإنّ مبدأ الشكّ قد ينطبق عليهم. فلكي لا يكون الشكّ كبيراً يمكن مراعاة الآتي:

  • تخفيض القيمة المعنويّة للنجاح في الاختبار لدى المتعلّم لكي نحصل على نتائج واقعيّةٍ بدلاً من أن يعدّ الطالب نفسه خصّيصاً للاختبار فيعطي نتائج مضلّلة.
  • تخفيض عدد الاختبارات، بزيادة كفاءة الاختبار الواحد، لخفض أثر الاختبارات على عمليّة التعليم.
  • تحسين بيئة الاختبار لتعطي تقريباً دقيقاً لما سيحدث في الواقع العمليّ.
  • استشعار وضع الطالب بدون أن يشعر ما أمكن ذلك.

في نظامنا الموجود حاليّاً هذا كلّه لا ينفع، لأنّ القيمة المعنويّة للنجاح في الاختبار تعتمد عليها الكلّيّة كدافعٍ أساسيٍ لتفاعل الطلاّب مع التعليم – كما أشرنا إليه من قبل21؛ و هذا يضطرّنا إلى النقطة التالية..

(3) القوّة الدافعة

لو نظرت بعين المصلحة العامّة لربّما صنّفت الفرح بالمظاهر (النتائج؟) ضمن العادات غير المرغوب فيها، فهو الذي يجعل اللاعب يسدّد الكرة في المرمى حين يكون الأفضل تمريرها لزميله، و هو الذي يجعل الطالب ’يتبخ‘ القراءات و يفعل أشياء من هذا القبيل. و البدائل المقترحة له كدافعٍ للطلاّب الفرح بالأداء الجيّد و الرضا عن النفس و الفرح بالمحصّلة، و هي جودة المجتمع ككلّ. نقدّم الملاحظات التالية:

  • تحدّثنا عن الفرح بالمظاهر دون ضبط للمصطلح، معتمدين كثيراً على فهم القارئ. و الحديث يشمل كذلك التخوّف من النتائج السالبة. جديرٌ بالقول أنّ الفرح بالمظاهر أسوأ ما يكون في بيئةٍ محاكاة.
  • الفرح بالنتائج عادةٌ ينبغي تتبعها عند الشخص منذ الطفولة، فمجرّد الـ’خرخرة‘ في اللعب عند الأطفال يمكن أن تكون هي البداية.
  • مما يجعل التخلّص من هذا العادة صعباً أنّها أصيلةٌ لدى الآباء كذلك؛ أكثر الناس يريد أن يكون ابنه طبيباً أو مهندساً مشهوراً، لا أن يكون شخصاً ناجحاً قادراً على فعل الصواب و على إسعاد نفسه و من حوله أينما وُضِع.
  • كثيرٌ ممن أتى هذه الكلّيّة لأجل المعرفة و التعلّم دمّرتهم سياسة الكلّيّة المعتمدة على دفع الطلاّب بالنتائج (فساد التصوّر22!) هؤلاء كانوا آخر الناجين، أمّا الآخرين فقد أدركوا هذه النهاية مبكراً في مراحل التعليم العامّ.
  • هذا النقطة تحتمل كلاماً أكثر من هذا، فقد قدمناها هنا باختصار.

(4) المرور

من المفاهيم التي تستحقّ المراجعة مفهوم المرور (‏Pass‏)، و قبل أن أستأنف أذكّر بأنّ كلّ رأيٍ أقدمه قابلٌ عندي للنقاش و التعديل. هل كان منطقيّاً أن يكون المرور بالدرجة، مثلا 40٪؟ ماذا لو حُصّلت هذه الدرجة من أشياء ليست جوهريّةً؟ من مجرّد حفظٍ للقوانين؟ من طريق الصدفة؟ أريد أن أقدّم المقترح التالي، على أن يناقش في فرصة أخرى إن شاء الله:

«اختبار المرور يجب أن يجرى عمليّاً في البيئة الحقيقية أو في بيئةٍ بارعة المحاكاة، أمّا اختبار التقييم النهائي فيجرى بعد ذلك على الطلاب المارّين.»‏

مثلاً فقد مررنا من قبل في امتحانات التربية الإسلاميّة و أجبنا على كلّ أسئلة التجويد بدون أن نجيد القراءة من المصحف. و كذلك مررنا في امتحان البرمجة بدون أن نجلس أصلاً أمام حاسب نبرمجه. هذا كلامٌ فارغ. ما لم يقف الأستاذ أمام الطالب و يراه يبرمج بنفسه فلا ينبغي أن يجلس للامتحان أصلاً. و بالمقابل لو برمج الطالب أمام الأستاذ عمليّاً عدداً من البرامج الجيدة (التي تدل على استيعابه الفكرة) فينبغي أن يجتاز الامتحان و إن كانت درجته ضعيفة؛ ذلك لأنّ الدرجة الضعيفة في حالاتٍ كهذه كثيراً ما تشير إلى خللٍ في طريقة الاختبار. ثمّ أتساءل: كيف يرسب طلبتك في امتحانك في مادةٍ درّستها أنت؟

(5) المعرفة عند الطلب

هذه هي السياسة المتبعة حالياً أنّ الطالب لا يتعلّم شيئاً إلاّ عندما يُطلب منه ذلك. أقول: مهما كانت ثقة الطالب في المؤسّسة كبيرةً لا أظنّها تكفي لدفع الملل في التعلّم عند الطلب. البديل المقترح هو المعرفة عند الحاجة، و كما لا يخفى عليك فالطلب حالةٌ خاصّةٌ من الحاجة. عندما يشعر الطالب أنّه محتاجٌ لمعلومةٍ معيّنةٍ نتوقع أن يكون دافعه للحصول عليها أكبر منه عندما يطلب منه ذلك، و قد قالوا قديماً: «الحاجة أمّ الاختراع،» حينئذٍ تصبح مهمّة المؤسّسة التعليمية خلق حاجاتٍ لدى الطالب للمعرفة المطلوب تَوفُّرُها عنده فضلاً عن إشرابه هذه المعرفة بالأوامر. على الأقلّ حاولوا خلق فضولٍ عند الطالب و تشوّق للمعلومة قبل تقديمها له. جديرٌ بالذكر أنّ من ميزات هذا البديل مشابهته لواقع الحياة العمليّة، فبعد التخرّج لن يطلب أحدٌ من الشخص أن يعرف شيئاً معيناً؛ الحاجة فقط من يطلب.

أقترح الآن أن نقف هنا و نواصل لاحقاً إن شاء الله.

Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | Leave a comment

مفاهيم أساسيّة

إدارة المجتمع نقصد بها توجيه دوافع الأفراد و السيطرة عليها لتحقيق مصلحةٍ ما. كلمة دوافع هنا تشمل الدافع و الوازع و الرادع. المصلحة المعنيّة يمكن أن تكون ازدهار القطر أو عمرانه، التفوّق على الأقطار الأخرى (فرعون؟!).. أمّا المصلحة التي نرجوها فهي ما نسمّيه المصلحة العامّة، و هي «توفير الاحتياجات الأساسيّة لأكبر جزءٍ ممكنٍ من أفراد المجتمع في الحاضر و المستقبل18.» الاحتياجات الأساسيّة هي الأكل و الشرب (و الكساء و الدواء..) و الأمن و الاستقرار و الرضا و السعادة. هذه قائمةٌ مبدئيّةٌ يمكن أن نعدّل فيها لاحقاً، لكن لاحظ الآن أنّ الرضا و السعادة هما مربط الفرس، فلا أحد يأكل أكثر من سعة بطنه أو حاجة جسده، بينما قد لا يرضيه طعامٌ ما، و قد يسعده طعامٌ آخر. لاحظ أيضا أنّنا لم ندرج التعليم النظاميّ كحاجةٍ أساسيّةٍ، ذلك لأنّنا نعتبره وسيلةً و ليس بغايةٍ مقصودةٍ لنفسها، إذ قد نرى في وقت ما تحقّق المصلحة العامة بتعليم نسبةٍ من المجتمع نظاميّاً فضلاً عن تعليمه كلّه..

ألا تبدو هذه النظرة غريبةً بعض الشيء؟ هي كذلك، و لو استمررت بهذه الطريقة فسأفقد الاتّصال مع القارئ، لذلك أشرح سرّ هذه الغرابة. الفكرة ببساطةٍ في الزاوية التي ينظر منها الشخص، فالناظر بعين المصلحة العامّة يرى أشياء تختلف عمّا يراه الناظر بعينه الخاصّة. و كمثالٍ على ذلك خذ التفوّق: غايةٌ يقصدها كلّ طالبٍ و يتمنّى أن يكون الأوّل في دفعته. رغم أنّ هذه الرغبة إيجابيّةٌ في تحقيق المصالح الخاصّة إلاّ أنّها قد تبدو سلبيّةً إن نظرنا إليها بعين المصلحة العامّة؛ ذلك لأنّنا نرى حينئذٍ أنّ السعادة و الروح المعنويّة التي يجدها الأوّل تقابلها تعاسةٌ و إحباطٌ يجدهما ’الطيش‘.. وضحت الفكرة.

كيف نحقّق المصلحة العامّة؟ يرى الكثيرون أنّ المصلحة العامّة تتحقّق بتحقيق المصالح الخاصّة لكلّ الأفراد، لكنّني أعتقد أنّ هذا الفهم غير صحيح؛ بالمصطلح الهندسيّ: العلاقة ليست خطيّة. مثلاً يتطلّع كلّ شخصٍ لأن يكون غنيّاً، لكنّ تحقّق هذا يفسد المصلحة العامّة. هذا مجرّد مثالٍ من مئات الأمثلة. و مع هذا فالنموذج الذي نسعى إليه هو تحقيق المصلحة العامّة من خلال المصالح الخاصّة للأفراد، كما سنرى بعد قليل. يظلّ السؤال قائماً: كيف نحقّق المصلحة العامّة؟ ربّما يجيب شخص: ”بأن نجعل الناس حريصين على المصلحة العامّة يراعونها مع مصالحهم الخاصّة،“ و هذه إجابة على السؤال بسؤالٍ أصعب منه. الإجابة الأكثر قبولاً عندي هي: ”الحكومة هي المسئول عن تحقيق المصلحة العامّة،“ لكنّها إجابةٌ ناقصةٌ. الحكومة بكلّ مؤسّساتها التنفيذيّة و التشريعيّة هي في النهاية جهةٌ تنفيذيّة! إذ تقوم كلّ مؤسّسةٍ من مؤسّسات القطاع العامّ بتنفيذ مهامّ محدّدةٍ على أمل أنّ هذا يحقّق المصلحة العامّة: الهيئة القضائيّة تفصل في النزاعات و الخلافات، المجالس التشريعيّة تضع السياسات.. السؤال الهامّ جدّاً: من الذي يخطّط كلّ هذا؟ من يحدّد مسئوليّة و سلطة كلّ قطاعٍ و كلّ فردٍ و كلّ وظيفة؟

من وراء كلّ هذا توجد فئة من المتطوعين (في الغالب) اسمهم المفكّرون و الفلاسفة يخطّطون المجتمع بأيدٍ خفيّةٍ، و يخطّطون الوسائل لإنزال مخطّطاتهم هذه إلى الواقع؛ بعبارةٍ أخرى: يكتبون نظام التشغيل (‏Operating System‏) و طريقة إعداده (‏Setup Procedure‏). لن نتحدّث كثيراً عن هؤلاء المفكّرين، فإنّ كلامنا عنهم مجرّد ظنونٍ، لكنّنا نعلم أنّ وظيفتهم اختياريّةٌ يشارك فيها كلّ من آنس في نفسه الكفاءة. و نظنّ كذلك أنّه لكي نتعامل معهم أو نكون منهم لابدّ من أن نملك القدرة على النظر للأمور بعين المصلحة العامّة.

الآن نحاول أن نتقمّص شخصيّة مفكّرٍ و نتحدّث قليلاً عن شكل التخطيط الذي نريده قبل أن ننتقل إلى موضوعنا الأساسيّ و هو المؤسّسات التعليميّة. النموذج المطلوب يمكن أن نسميه التخطيط الإيجابيّ، و نلخصه في عبارة: «إدارة الرغبات لتحقيق المصلحة العامّة.» كلمة ’إدارة‘ تشمل هنا مجموعةً من عمليّات تحرير (‏Editing‏) الرغبات نذكر منها: تقليص و تخميد رغبةٍ ما، امتصاص (احتواء)، إشباع، غرس، تنشيط، توجيه.. و لنعطِ بعض الأمثلة المبنيّة على مثال التفوّق المذكور آنفاً:

  • يمكن للمؤسّسة التعليميّة أن تقلّص هذه الرغبة في الطلاّب.
  • يمكن امتصاص هذه الرغبة بإعطاء الامتياز للأوّل بطريقةٍ لا تؤثّر سلباً في الآخرين.
  • يمكن بدلاً من ذلك إشباع رغبة التفوّق بعد تعديلها قليلا لرغبة تميّز، و ذلك بإعطاء كلّ طالبٍ فرصةً لإظهار الميزات التي يتميّز بها على الآخرين بدلاً من حصر المنافسة في مجال واحدٍ أو بمعيارٍ واحد. بهذه الطريقة يمكن أن يكون لدينا أربعون كاسباً في مجالاتٍ متنوّعةٍ بدلاً من أن يكون لدينا كاسبٌ واحدٌ و تسعةٌ و ثلاثون خاسراً.
  • أخيراً يمكن توجيه رغبة التفوّق بجعل المنافسة بين الطلاّب في تنفيذ مشاريع حقيقيّةٍ أو حلّ مسائل واقعيّةٍ، بحيث يكون تفوّق طالبٍ واحدٍ مفيداً للمصلحة العامّة و يشفع لخسارة الآخرين.

و الآن أيّ هذه الطرق تفضّل؟ في الواقع نجد أنّ اختيار طريقةٍ ما لا يتمّ منفرداً بل يكون بالتنسيق مع كلّ جزئيّات التخطيط، فالرغبة المطلوبة في ظرفٍ ما قد لا تكون مرغوبةً في ظرفٍ آخر، فيصبح تخميدها عبئاً حينئذٍ، و العكس قد يحصل كذلك. على كلٍّ فالحديث عن ملامح التخطيط الجيّد موضوعٌ منفصلٌ بذاته. دعنا الآن ننتقل إلى الجزئيّة التي تلينا من هذا التخطيط..

المؤسّسات التعليميّة

هذه فكرةٌ أتوقّع أن يكون ابتدعها بعض هؤلاء المفكّرين و أقنعوا بها الناس حتّى صارت اليوم أمراً واقعاً كالأكل و الشرب، و هي إمرار كلّ أفراد المجتمع من خلال قناةٍ واحدةٍ حيث يسهل توجيه رغباتهم و أفكارهم و دوافعهم تجاه المصلحة العامّة. فالمؤسّسات التعليميّة إذن مرحلةٌ تمهيديّةٌ توجّه الأفراد ليجدوا المكان المناسب في نظام المجتمع، و وجود كلّ شخصٍ في مكانٍ يناسب نفسيّاته و إمكاناته مؤشّرٌ لنجاح هذه القناة، و وجود كلّ شخصٍ في مكانٍ غير مناسبٍ – كما هو حالنا – مؤشّرٌ لخللٍ في القناة التعليميّة.

خلال مرور الأفراد في القناة التعليميّة يتم تزويدهم بأكبر قدرٍ ممكنٍ من التربية و المعرفة اللازمة لتحقيق المصلحة العامّة. و الآن نصل إلى نتيجةٍ هامّةٍ جدّاً: «تزويد الطالب بالمعلومات في المؤسّسات التعليميّة العامّة ليس مقصوداً لذاته و إنّما القصد منه المساهمة في تحقيق المصلحة العامّة.» ”و ما الفرق في ذلك؟“ الفرق كبيرٌ جدّاً، فقد يوصي أحد المفكّرين بإعادة النظر في مؤسّسةٍ تعليميّةٍ مثل هذه الكليّة بسبب شيءٍ تراه تافهاً كـ’الترس‘؛ ذلك لأنّ الأمانة و الثقة و المسئوليّة و الاعتماديّة (‏Reliability‏) أولى عنده للمصلحة العامّة من كتلٍ جامدةٍ من المعلومات يمكن الحصول عليها في أيّ وقتٍ من أيّ كتاب.

الملخّص

  • بهذه الورقة نكون قد اقتربنا كثيراً من خانة البداية التي سننطلق منها إن شاء الله، فقد عرفنا أنّ تحقيق المصلحة العامّة هو الأساس الذي نبني عليه الأهداف العامّة للمؤسّسات العامّة.
  • وقفنا كذلك على أحد الأسباب الخلفيّة لكثيرٍ من مظاهر الخلل في بلدنا هذا، و هو أنّ كثيراً من مؤسّسات القطاع العامّ – بما فيها القناة التعليميّة – خطّطت و تعمل بأعين قاصرةٍ عن إدراك مفهوم المصلحة العامّة، أو ترى المصلحة العامّة ليست سوى جملةً من المصالح الفرديّة.
  • بالنسبة للسيّاسيّين و الإداريّين تجد كثيراً من أقوالهم و آرائهم و تصرّفاتهم مبنيّاً على رؤيةٍ خاصّةٍ أو موجّهاً تجاه ما يحقّق فخراً أو يثبّت موقفاً، مع الإهمال التامّ للنظرة المستقبليّة: أضاعوا وقت الأمّة خلف المظاهر.
  • النظر بعين المصلحة العامّة يعطي منظراً مختلفاً عمّا تراه عين الفرد. جديرٌ بالقول هنا أنّ كثيراً من الأفراد الخيّرين على المستوى الفرديّ قد يعيقون المصلحة العامّة بسبب حرصهم الزائد على العدل و الانضباط و دفع شبهة الرياء.. هذه التصرّفات الحسنة في الحياة الخاصّة قد تعيق العمل العامّ أحياناً.
  • المصلحة العامة عادةً لا تتحقق مباشرةً بتحقيق المصالح الخاصّة للأفراد.
  • المصلحة العامّة لا تعرف إلاّ المصالح. لا معنى لعبارةٍ مثل ”هذا فخر للسودان..“ في تحليلٍ فكريٍّ، بل يمكن أن نستبدلها مثلاً بـ ”هذا يرفع الروح المعنويّة للسودانيّين..“ أو ”هذا يكسب السودان ضغطاً إعلاميّاً خارجيّاً..“ و لا يجب إنفاق الأموال العامّة إلاّ مقابل قيمةٍ محسوسةٍ للمصلحة العامّة.
  • لن أطلب من الزملاء الآن‏ طلباً كبيراً مثل تقديم المصلحة العامّة على مصالحهم الخاصّة. ما أطلبه من الجميع هو النظر إلى القضايا العامّة و مناقشتها بعين المصلحة العامّة.
  • أخيراً: إن كان فكرنا لا يتّسع لإيجاد تخطيطٍ متكاملٍ لهذا البلد فإنّنا بالتأكيد نستطيع إن نمهّد لحركةٍ فكريّةٍ تقوم بهذه المهمّة. لا يكن أحدنا كما يقول المثل العاميّ: ”لا بطقّع لا بجيب الحجّار!“‏
Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | 2 Comments

فقط لتطمئن

ماذا تعرف عن الجدري؟ ”الجدريّ مرضٌ جلديٌّ يسبّب أثراً دائماً قي الجلد و قد يؤدّي للوفاة..“ سيقاطعني القارئ قائلا: ”و لكنّ الجدريّ مرضٌ تنفّسيٌّ.“ إذن فظهور القروح في الجلد قد يكون عرضاً لمرضٍ باطنيّ. أعلم أنّ المثال ساذج، و إنّما قصدت به استحضار هذه المعلومة. سؤال طبيٌّ آخر: هل يمكن أن يُوْدي مرضٌ كالزكام بحياة شخص؟ و الإجابة المعروفة هي: نعم، إن كان مصاباً بمرضٍ اسمه أيدز. و كذلك نعلم خطورة مرضٍ كالسكّري، فهو يضعف الأعصاب و يجعل التعامل مع الجروح صعباً. سؤالٌ طبيٌّ أخير: ’رونالد روس‘ لابدّ أنّك تذكر هذا الاسم. ”نعم إنّه الرجل الذي ارتبط اسمه بالملاريا.“ هذا صحيح، و هل تذكر ما فعله هذا الرجل؟ إنّه لم يكتشف الكينين أو الكلوروكوين، بل ما فعله هو اكتشاف أنّ الملاريا يسبّبها ميكروب ينقله البعوض؛ هذا هو الضوء الأخضر الذي كان يحتاجه الناس..

لعلّك قد مللت هذه المداخل الطويلة، و سئمت هذا الكلام الأدبيّ، و شعرت بعدم الموضوعيّة في التناول، و بدأت تشكّ في وجود المشاكل التي أتحدّث عنها، و في أنّني أتوهّم. سأبدأ الآن في سرد بعض جوانب الخلل في النظام الأكاديميّ في هذه الكليّة:

(1) الأهداف: الأهداف العامّة لهذه المؤسّسة غير معروفة، و الأهداف الخاصّة لمن فيها لا تؤخذ في الاعتبار. ربّما رأى علماء الإدارة أنّ أهداف المؤسّسة يجب أن تكون واضحةً و محدّدةً، و أنّ الأهداف الخاصّة للأفراد يجب أن توجّه باتّجاه الهدف العامّ، و هذه مهمّة الإدارة. و أهداف الجزئيّات في هذه المؤسّسة غير واضحةٍ و غير مضبوطة؛ و أقول للمرّة الثانية: أتحدّى شخصاً يستطيع أن يقف أمامي ليريني الهدف من كلّ جزئيّة في تسلسل دراستي في السنوات الخمس.. و لعلّ السناير يذكرون أنّه حين سئل مدير الجامعة ”لماذا ندرس المطلوبات و لماذا تدخل في المعدّل؟“ قال: ”هارفارد بَرضو فيها مطلوبات“! يعني ’حاكو حاكو‘ كما يقول الأطفال. و السناير كذلك يذكرون بيان عميد الكلّيّة في ذات الشأن.

(2) الفلسفة: و ليست لدى الكلّيّة رسالةٌ واضحةٌ كذلك، فهي مثلاً لا تطلع الطالب على وثيقة لأخلاقيّات المهنة، بل إنّها تقرّ اللاأخلاق لدرجة جيّدة.

(3) المكان: ‏”كليّة الهندسة بجامعة الخرطوم ليست مواكبة،“ هذا هو ملخّص المشكلة في ظنّ الكثيرين، و يقصدون بمواكبةٍ أي للعالم الخارجيّ. هذه غلطةٌ إداريّةٌ لم يسلم منها أيّ شخص قابلته: كليّة الهندسة بجامعة الخرطوم يجب أن تكون مواكبةً للواقع في السودان لأنّها تريد أن تخرّج أشخاصاً يعملون في السودان، فلا معنى لأن ندرس أحدث التقنيّات ‏Latest technologies‏. هذه المؤسّسة ملكٌ لهذا البلد، وضعت لصالح هذا البلد، و لا ينبغي أن تخرّج الناس لكيلا يجدوا بعد ذلك عملاً هنا أو ليهربوا خارج البلد. هذه النقطة من أكبر خلافاتي مع الجميع، و سنعود لها ثانيةً إن شاء الله؛ لابدّ أن نعود لها.

(4) الخطط: هذه الكليّة ليست ملتزمةً بأيّة خطّةٍ واضحةٍ و مضبوطة، فهي لم تلتزم يوماً طيلة سنيني فيها بالتقويم الذي تعلنه، و يمكنها أن تلغي أيّة جزئيّةٍ في التسلسل الدراسيّ، و يمكن أن يتغيّر أستاذ المادّة في أيّة لحظة. يمكنك أن تسأل أيّ أستاذٍ جديدٍ هل أطلع على خطّةٍ ينفّذ بها مهامه أم ترك الأمر له ليفعله كيفما يرى. تعيش الكلّيّة في ديناميّةٍ تامّةٍ: ”شغل رقّيع و مباصرة“ بالمعنى العاميّ.

(5) السياسة: مؤسّسةٌ في وضع جامعة الخرطوم ينبغي أن تخطّط بطريقة تجلها تؤثّر في السياسة و لا تتأثر بها، لكنّ الحقيقة هي أنّ كليّتنا هذه مخترقةٌ بواسطة السياسات العليا لدرجةٍ ممتازةٍ. و لا أظنّه يختلف اثنان في أنّ التعريب و مطلوبات الجامعة كانت قراراتٍ سياسيّةً، فهي لم تصدر عن مجلس الكلّيّة، و لم يناد بضرورتها أساتذة الكلّيّة.

(6) الأسبقيّات: ليست لهذه المؤسّسة أسبقيّاتٌ محدّدةٌ و واضحةٌ و منطقيّةٌ، و الأمثلة كثيرة.

هذه هي عوامل التخطيط كما يدرسها طلاّب السنة الرابعة، و لنواصل في سرد المزيد من الخلل:

(7) الدوافع: دوافع المتعلّم الأساسيّة في هذه الكلّيّة هي التخرّج بشهادةٍ جيّدةٍٍ أو المنافسة على النتائج مع الزملاء! لم تحاول الكلّيّة خلق أو تنمية دوافع أخرى، فطبقا لمبدأ ”جِلداً ما جِلدك جر فيو الشوك“ فإنّ الكلّيّة لم تجرّ الشوك في جلدنا بل جرّتنا نحن في الشوك: فهي لا تكترث لأن تكون المحاضرات ممتعةً، و لا تأبه إن كان المعمل مُحبطاً بسبب سوء تحضيره.. و هكذا تجد الطالب حاضراً بجسده غائباً بعقله في المحاضرات و المعامل، و هكذا تجده ’يترّس‘ التقارير، لأنّه لا يجد دافعاً لفعل كلّ هذا إلاّ ’الجَبُر‘. و لو أبدى تزمّراً لقيل له: ”ما في حلاوة من غير نار“ أو: ”يغوص البحر من طلب اللآلي ××× و من طلب العلا سهر الليالي،“ و هذا كلّه افتراء. صدقني في العبارة التالية: «المعرفة شيءٌ جميلٌ و ممتع، و إن خالطتها الكآبة فهذه ظاهرة مَرَضيّة.» يمكنك أن تصبّر نفسك بمثل هذه الأقوال، أمّا القائمون على أمر الكلّيّة فلا: عليهم أن يجدوا المرض الذي يجعل التعليم محبطاً بهذه الطريقة.

(8) الاكتمال: إلى أيةّ درجةٍ يمكنك أن تستفيد من كتابٍ منزوعٍ منه الغلاف و التصدير و قائمة المحتويات، و قد نزعت كذلك صفحاتٌ متفرّقةٌ من وسطه (و هو فوق هذا سيّئ الطباعة و الإخراج!)؟ هذا هو حال هذه الكلّيّة: لا يكترث أحدٌ لأيّ مادّةٍ لم تدرسها أو معملٍ لم تدخله. و بالرجوع لمثال الكتاب تخيّل (هي في الحقيقة تذكّر) ذلك الكتاب الذي يرجع إلى الشكل المرسوم في إحدى الصفحات الناقصة؛ هذا هو مثَل المعمل الذي لا يعمل.

(9) تنسيق الجزئيّات: لا يسأل الأستاذ كيف دُرّس ’الكورس‘ السابق المبنيّ عليه كورسه هذا بل يدرّس مادّته و ينصرف.. بدلا من أن نفصّل في هذه النقطة‏ دعنا نرى النقطة التالية:

(10) الاستشعار Feedback‏: يهتمّ الأستاذ بأن يقول المعلومة للطالب و لكنّه لا يتأكّد من وصولها كاملةً أو كما أراد. و كذلك يجيب الطالب في الامتحان أو يكتب التقرير و لا يتمّ تنويره صراحةً أو ضمناً أين أخطأ ليتجنّب خطأه في المرّة القادمة. و في هذه النقطة كلامٌ أكثر من هذا.

(11) فساد التصوّر: الجميع هنا يوجّهون الطالب في اتّجاه الامتحان لا في اتّجاه المعرفة. نقول بوضوحٍ: «المطلوب أصلاً هو التعليم لا التقييم.» و المعدّل ليس إلاّ واحداً من الأشياء التي أسيء التعامل معها في هذه الكلّيّة.

(12) الاستقرار: استقرار النظام الأكاديميّ هنا سيّئٌ، فهو حسّاسٌ مثلاً للأستاذ الذي يدرّس مادةً ما. و لذلك تجد التباين كبيراً عندما تنتقل من دفعةٍ لأخرى.

(13) ضعف المعايير: المعدّل معيارٌ ضعيفٌ، فهو حسّاسٌ مثلا لطريقة وضع الامتحانات و طريقة التصحيح. و مع كلّ هذه الظروف الاستثنائيّة في هذه الكليّة لا يوجد ‏Exceptions Handlers‏ أو ‏Secondary Protocols‏ للتعامل مع أو في هذه الظروف. لذلك قد يحيد المعدّل كثيراً عنه في ظروفٍ طبيعيّة؛ و هكذا فإنّ ذات الشخص بنفس الأداء قد يتأرجح معدّله في مدىً واسع. و الطريف أنّ كثيراً من الطلاّب يرمي اللوم على نفسه بلا تفكيرٍ و يشحن العزم على أن يحرز المرتبة الأولى في الفصل القادم.

(14) ضبط الجودة: هذه من عيوب الكلّيّة التي تمتدّ خارجها لتخلق مشاكل يصعب تتبّعها و حلّها. ينبغي أن يكون هنالك مستوىً معيّنٌ لابدّ أن يجتازه الطالب لكي يمنح شهادة الكلّيّة. الكلّيّة الآن تعتمد في ضبط الجودة على المعدّل التراكميّ و مشروع التخرّج، و في الاثنين نظر؛ لكنّها لا تستطيع أن تطبّق نظاماً صارماً لضبط الجودة مع كلّ ما ذكر، لأنّها حينئذٍ قد تضطرّ لتعليق لافتةٍ مكتوبٍ عليها: ”مغلق للصيانة!“ و هكذا فقد نفذ مئاتٌ من المهندسين الفاشلين من ضبط الجودة، و لا نعلم أين هم الآن و لا ماذا ’يهبِّبون‘! من هنا نعلم كميّة المآسي التي سبّبتها هذه الجامعة الحبيبة لهذا البلد المسكين.

(15) ..

لقد سئمتَ من الوقوف أمام البورد، لكنّ مظاهر الخلل لم تنته بعد، لكن أرجو أن يكون ما سردته كافياً لاستعادة الثقة بيني و بينك في أنّ الأمر ليس مجرّد ’نقنقة‘. و إن كنتُ قلت للبرلوم في ورقةٍ سابقةٍ: ”إن أخبرك أحدٌ أنّني قد كذبت عليك في كلمةٍ مما قلت فليرشدْك إلى مكاني لتحاسبني على ذلك.“ فإنّني الآن أقول: إن أخبرك أحدٌ أنّني قد كذبت عليك في كلمةٍ مما قلت فليقابلني لأحاسبه على ذلك. و كما ترى فإنّني لا أتوقّع أن يكذبني أحدٌ فيما تقدّم، لكنّني أخشى أن يقول أحدهم: ”مالو برضو المشكلة شنو يعني؟!!“ حينئذ سأردّ قائلاً: ”و الله ياخ ما في مشكلة بس الظاهر الجو مسخّن شويّة!“

و الآن لو قرأت هذه الورقة على شخصٍ محايدٍ فقد يقول لك: ”الظاهر إنتو ما بتقروا في كلّيّة هندسة أصلاً،“ و قد تجيبه أنت: ”و الله ياخ دي الحقيقة صدِّق!“ لكنّني رغم كلّ هذا أرى أنّ كلّ هذا الخلل مشكلةٌ بسيطةٌ مقدورٌ عليها ما دام يمكن حصره و ضبطه بهذه الطريقة (’رونالدروس‘!): مجرّد زكامٍ، لكن عند شخصٍ مصابٍ بالأيدز. و أحذّر بشدّة من محاولة علاج هذا الخلل الآن: ما يزال الوقت مبكّراً! قل مثلاً أنّك حصلت على تفويضٍ شرعيٍّ من الشعب السودانيّ كلّه يعطيك كلّ الصلاحيّات لتعالج هذه الكلّيّة. ستقف حائراً أمام السؤال: ”أين تجد الفريق الذي تعتمد عليه في التخطيط و التنفيذ؟“ و لأنّ الإجابة على هذا السؤال لا تسرّ فإنّك قد تسبدله بسؤالٍ آخر: ”كيف تُوجد هذا الفريق؟“ و السؤالان يتبعهما سؤالٌ ثالثٌ: ”كيف تثق في هذا الفريق؟“ و هكذا فإنّك لن تخلص من الأسئلة. و كما ترى فلا امتياز يذكر للصلاحيّات التي يمنحها لك كلّ الشعب السودانيّ مجتمعاً على تلك منحتها لك في ورقةٍ سابقةٍ. أقترح الآن بدلاً من هذه الأسئلة أن تكون ملفات النقاش مفتوحةً للجميع في شأن كليّة الهندسة و في شأن كلّ القضايا العامّة، و أدعو الجميع، أساتذةً و طلاّباً، لهذه النقاشات التي يكون مكانها الندوات، لوحات الإعلانات، الصحف.. هذه كلّها أوساطٌ فكريّةٌ فعّالةٌ توجيهاتها بمثابة الأوامر، فقد يكتب شخص في ورقةٍ كهذه: ”نحتاج الآن لشخصين بالمواصفات الفلانيّة يرفعان مذكّرةً بالمحتويات الفلانيّة للجهة الفلانيّة..“ فإذا نفّذ شخصان بالمواصفات المعنيّة هذا التوجيه عرف هذا الشخص حجم الصلاحيّات التي يملكها، و إلاّ فهو لن يدخل السجن و لن يقدّم للمحاكمة. و تمتاز هذه الطريقة بأنّها لا توكل العبء كلّه لمجموعةٍ صغيرةٍ بل تعطي الجميع فرصة المساهمة في الحلّ، و لن أشرح الآن كيف تكون مساهمة الجميع.

إن كان عددٌ جيّدٌ من الناس قرأ هذه الورقة و الورقات السابقة في هذه السلسلة و أمّن عليها حتّى هذا السطر أكون قد أنجزت بنجاحٍ هذه المهمّة الاستكشافيّة. قد أختار بعد ذلك مهمّةً أخرى، و قد أختار أن آخذ قسطاً من الراحة، فالحمد لله. الآن أنتظر أن تظهر أقلامٌ أخرى تشارك في هذا النقاش، و أرجو أن أعرف رأي الزملاء قبل أن أخطو خطوة أخرى.

Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | Leave a comment

إزالة الحواجز

‏ ”دا بكورك مالو؟!،“ هكذا سأل أحدهم عندما مرّ بشخص يغرق، و حين ردّ عليه أحد الواقفين: ”ما بعرف يعوم.“ قال: ”و أنا ما ما بعرف أعوم بَكورك كده؟“! لم أرد ضرب مثلٍ بهذه القصّة و إنّما أردت بها تلطيف الكلام، و لا أظنّك تسأل هذا السؤال؛ إذن لكنت اكتفيت بقراءة العنوان و لم تتوغّل داخل النصّ؛ و لكنّك تسأل سؤالاً آخر: ”الحلّ شنو؟“. ألا تعتقد أنّه مازال الوقت مبكّراً لسؤالٍ كهذا – إلاّ إن كنت تقصد ”كيف العمل؟“؟ إن كنت مصرّاً على أن تعرف الحلّ الآن لتطبّقه في اليوم التالي فتعال لتودّعني مساء اليوم في مطار الخرطوم. هل جرّبت أن يحمل شخصٌ ورقةً كتبتها بيدك (لا تحمل توقيعك) ليشرح لك محتوياتها فيقول لك: ”لا هو ما المقصود هنا كذا و كذا قاصدين كذا..“؟! حدث هذا حين كنّا بصدد قضيّة المطلوبات، و لا أريده أن يتكرّر.

ألا ترى أنّ الناس غير متفاعلين مع كلّ ما نتحدّث عنه؟ لقد كنتُ من المنادين برفع مذكّرةٍ لنائب العميد بشأن أسبوع المهندس الأخير، و عندما كلّفت بصياغتها حرصت على صيغةٍ ترضي الجميع أتجنّب فيها أيّ سببٍ يمنع أحد الطلاّب من التوقيع عليها، لكن كان أوّل من رفض التوقيع هو أقرب أصدقائي! منقبةٌ له أن لم يجاملني، و ملامةٌ عليّ أنّ صديقي لا يشعر بأهميّة شيءٍ أؤمن بأهميّته. كثيراً ما سمعت البرالمة عند الخذلان يقولون: ”ناس الكلّيّة ديل رمم.“ سأحاول أن أشرح لك الآن لماذا لا يتجاوب الناس.

ربّما كان لكثيرٍ من طلاّب هذه الكلّيّة مجتمعٌ آخر خارج الجامعة، في الحلّة أو في الأهل، ينسيهم التفكير في مشاكل الجامعة. ربّما كان لبعضهم أيضاً مجتمعٌ خاصٌّ داخل الجامعة في شكل علاقةٍ عاطفيّةٍ تنسيه هذه المشاكل؛ و حتّى لو كان عنده مشاكله الخاصّة فهي أيضاً تنسيه المشاكل العامّة. هذا جانبٌ؛ و الجانب الآخر هو أنّ كثيراً من الناس لم يجرّب كثيراً من الأشياء لتخلق قيمةً عنده، فمن لم يعمل في أسبوع المهندس مثلاً قد لا يدرك قيمة النشاط. جانبٌ ثالثٌ هو أنّ بعض الناس ’حسّاسين‘ تحبطهم أشياء بسيطة فـ’يحردون‘ العمل العامّ جملةً. هذا هو الوضع الابتدائيّ، و ما يعقّد هذا الوضع هو المسكّنات التي يتعاطاها الناس لتناسي المشاكل: فالذي ’يترّس‘ أو ’يتبخ‘ لا يكاد يشعر بأنّ هنالك مشكلةٌ في المعامل، و الذي ’يتندس‘ له زملاؤه لا يعرف أنّ هنالك ’لكاشر‘ مملّةٌ، و الذي يحلم بالهجرة غرباً لا يكترث إن كان السودان يذهب للجحيم. و يمكنك أن تعدّد عشرات الأمثلة.

إذن فهذا هو الوضع العامّ. و عندما يعمل كلّ هذه المسكنّات معاً فإنّ كلّ هذه المشاكل قد تكون في مواجهة شخصٍ واحد. تعال و قف مكانه و لن يكفيك أن ’تكورك‘. يبدو أنّ ظروف الكاتب قد تشكّلت بطريقةٍ نتيجتها أنّه لا يتعاطى أيّ مسكنّات. لن أقصّ عليك قصّة حياتي لأريك كيف حدث هذا، لكن لكي لا تظنّ بي التظاهر بالنبل أخبرك أنّني لا أستطيع تعاطي المسكنّات أو تناسي المشاكل حتّى لو أردت ذلك. هذا كلّه لا يهمّك، و أعتذر لك عن الحديث عن نفسي. ما يهمّك هو أنّ المشاكل التي أتحدّث عنها موجودةٌ و بالحجم الذي أتحدّث عنه. و قد أعلم أنّ أحد القرّاء يتعاطف معي، لكنّ هذا لا يكفي. فإذا كان القارئ قد عدل عن سؤاله: ”الحل شنو؟“ إلى السؤال: ”كيف العمل؟“ فسأطلب منه طلباً صغيراً أن يجرّب لفترةٍ أن ينتهي عن تعاطي المسكنّات ليحسّ بحجم المشاكل التي أتحدّث عنها. و لا شكّ في أنّ الشعور بالمشاكل ظاهرة صحيّة مثل الشعور بالألم، فما أكثر مرضى السكّريّ الذين بترت أرجلهم لأنّهم لم يكونوا يحسّون بالألم. إذن فعندما لا يعمل أحد الأجهزة في المعمل فلا تتبخ القراءات بل اسأل: ”هل هذه مشكلتي وحدي أم مشكلة الجميع؟“، فإذا كانت مشكلة الجميع فلتدعُ الجميع ليحلّها الجميع، إذ أنّ المشاكل العامّة لا تنفع فيها الحلول الفرديّة إلاّ سعيد الحظّ و عديم الضمير؛ و لكن.. و لكن..

.. و لكنّ الجميع لن يتجاوبوا معك حتّى لو علموا قيمة ما تقول، و هذا هو الحاجز الأوّل. هل تعرف لعبةً اسمها ’سيجة‘؟ لكي لا يفوت المثال على أحد الزملاء أو الزميلات فإنّ الفكرة هي أنّك تأخذ (’تاكل‘) أحد حجارة (’كلاب‘) خصمك إن حصرته بين اثنين من كلابك. إن لعبت هذه اللعبة فلابدّ أنّك تذكر الوضع المرسوم في الشكل.

عندما تضع كلابك هكذا فإنّك لن تخسر أبداً، و لكنّك تفسد اللعبة: ’تعفّنهْا‘ كما يقول الأطفال الذين يلعبون السيجة. أعتذر عن كتابة كلمةٍ كهذه لا تناسب لياقة و احترام هذا المكان، و لكنّها تصف تماماً ما اختار أن يفعله سكّان و خريجوا هذا المكان: إنّهم يفسدون الحياة: كلّ واحدٍ منهم قفل نفسه هكذا لأنّه لا يريد أن يخسر. ربّما كنت لن تخسر، و لكنّك لن تربح كذلك. أما ترى أنّك مسجونٌ في مربّعين؟! قد تزيد عدد المربّعات إن كنت تملك المزيد من الكلاب، لكنّك مسجونٌ في كلّ الأحوال. ثمّ ماذا سيحدث إن خسرت؟ تبدأ من جديد، و تتعلّم المزيد، و قد يأتي يوم تكون فيه أنت الكاسب. كلّ الألعاب قد تصلح لضرب المثال للعبة الحياة: لن تدرك متعة اللعبة إن كنت لا تريد أن تخسر أبداً، و لن تتقدّم للأمام: «و من لم يتعلّم صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر!»‏

كنّا لا نحب أن نلعب مع من يلعب بهذه الطريقة، لأنّه لا يلعب معك إلاّ إن كان هو من سيكسب. و الآن صار الجميع يلعبون بهذه الطريقة: جرّب تقتنع. و التنظيمات أيضا تلعب بهذه الطريقة، لكنّها تملك كلاباً أكثر ممّا يملكه الأفراد، و لذلك فلديها مساحةٌ أكبر لتتحرّك فيها؛ و لكنّها منغلقةٌ على نفسها في النهاية. و الميل للّعب بهذه الطريقة سلوكٌ يتربّى عليه الشخص، و ربّما كان هو نفسه الذي يجعله فيما بعد يريد أن يحتفظ عنده بكلّ شيءٍ. و المتّصف بهذا السلوك قد لا يعتمد عليه ، لأنّه يمكن أن يتوقف بالناس و بعجلة الحياة عند أيّ وضعٍ يشعر فيه بالراحة. و لعلّ تجميد الموارد سلوكٌ سيّئٌ حاربه الدين و حاربه الفكر. و أنا أنادى الآن للمرّة الثانية و أدعو لمناقشة البعد الدينيّ لكثيرٍ من مشاكلنا، و أكاد أسمّي أشخاصاً بأعينهم ليفعلوا ذلك، لكنّني أنتظر منهم أن يبادروا بأنفسهم.

هكذا أفسد المتعلّمون حياة الجميع، كلٌّ بما لديه فَرِحٌ، فماذا نحن فاعلون. هل نسلّم للإحباط و ’الكتاس‘؟ هذه المرّة لا. خطّتنا القادمة، أنا و من تجاوب معي، هي استفزاز الناس ليخرجوا من شرانقهم هذه، فأرجو أن تكون معنا. طرق الاستفزاز متباينة: نقاشٌ، وعظٌ؟ لك أن تختار أيّة طريقةٍ تراها مناسبة لمن حولك. كلّ شخص له نقاط ضعفٍ و مداخل يمكن الدخول منها إليه لإخراجه من الشرنقة، و سنركّز على نقاط الضعف هذه. و من المهمّ لتنفيذ هذه المهمّة – أو أيّة مهمّة في المجتمع – أن تكون قريباً من الناس تفهم نفسيّاتهم و تعرف كيف يفكّرون، و أن يكون عندك ’مسّاكات‘ كما يقول أهل الكتشينة تستطيع بها أن تدخل للناس من أيّ بابٍ فتحوه. هذه النتيجة وصلت لها أنا و غير واحدٍ من الأصدقاء في نفس الوقت من طرقٍ مختلفة، فيمكنك أن تصل إليها بالتجارب، و يمكنك أن تأخذها منيّ على الثقة.

بقيت مساحةٌ صغيرةٌ في هذه الورقة استغلّها لألفت النظر إلى نوعٍ آخر من الحواجز التي تجب إزالتها، و هي الحواجز داخل عقل الشخص الواحد. تجد كثيرا من الأشخاص يملكون شخصيّاتٍ متباينةً و يسكنون في عقولهم جماعاتٍ من الأفكار المتناقضة، كلّ فكرةٍ تسكن غرفتها الخاصّة و تعيش في سلامٍ و وفاقٍ مع الأفكار الأخرى!! هذا لا ينفع، لأنّ هذا الشخص سيلبس في كلّ موقفٍ عباءةً تلائم ذاك الموقف. يمكنك الآن أن تفكّر في أوقات فراغك في كلّ القناعات التي في رأسك لتفكّ كلّ التناقضات فيه، يمكنك أيضا أن تستفزّ الآخرين لتهدم الحواجز داخل عقولهم، و سنتحدّث في وقت لاحقٍ إن شاء الله عن تنشيط العقل.

Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | Leave a comment

الطناش وربويّة المشاكل

ربّما عدت إلى المنزل ذات يوم فوجدت إحدى المواسير قد انكسرت و عليك أن تصلحها أو أن تحضر سبّاكاً ليفعل ذلك. ربّما كنت مرهقاً فقرّرت أن تأخذ نومةً قبل أن تنظر في الأمر؛ و عندما تستيقظ فلن تكون الماسورة هي المشكلة الوحيدة، و إنّما هنالك أيضاً ترعةٌ من الماء و الطين. ربّما تقول أنّك لم تكسر الماسورة و أنّ إصلاحها ليس من اختصاصك، و هكذا تقرّر أن تتجاهل المشكلة، و لكنّ البعوض سيزورك في الليل ليذكّرك بأمر الماسورة. و هكذا فإنّ مشكلة ليست من صنعك و لا إصلاحها من اختصاصك قد تتسبّب في النهاية في أشياء تضايقك و يتعذّر عليك معالجتها. هكذا هي المشاكل تتعامل بالربا: كلّما أجّلت علاج مشكلة ما وجدت في اليوم التالي مشاكل إضافيّة.

هل هذا الكلام مشابه للواقع؟ ما عرضته في ما سبق يشبه حال من ’ملّح‘ مع أحدهم في الشارع ثمّ تعطّلت السيارة قبل أن يصل إلى وجهته. أعلم أنّ القارئ لن يترك صاحب السيارة حتّى يطمئنّ عليه و على سيّارته، و هذا التزامٌ أدبيٌّ، فإن كان مستعجلاً فله أن يعتذر بذلك. هذا ما قد توحيه الورقة السابقة للقارئ، لكنّ الالتزام هنا في الواقع ليس أدبيّاً و إنّما هو إلزامٌ جبريٌّ: «لا يمكنك التجاهل.» أنا أعلم أنّ تخطيط الكلّيّة ليس من اختصاصك، و لكنّه تسبّب لك في مشاكل يصعب عليك التعامل معها من لكاشر ’برّاية‘ إلى لابات ’مخستكة‘ إلخ. ثمّ كيف تقول أنّ هذه المشاكل ليست بمسئوليّتك و لست أنت من تسبّب فيها؟ لقد تركت العمل السياسيّ لأنّه قذر و لم تفكّر أبداً لمن تركته، فهل ستأتي يوماً لتسبّ الحكومة و تشتمها؟ أنت تحلف بدينك و أَيمانك أن لو دفعوا لك الملايين فلن تُدرِّس في هذه الكلّيّة ’السجمانة‘ و لن تضع فيها قدمك بعد أن تستلم شهادتك (!!!!)، و لكن لا يهمّك من سيدرّس فيها. أرجو ألاّ تنتظر أن يَدْرُسَ فيها ابنك بعد ثلاثين عاماً. أقول: «لا تعتمد على الأماني: ‏(‏..إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..).»‏

نظرةٌ أخلاقيّة‏

‏”لماذا تخاطبني أنا بالذات؟“ هكذا قد يسأل أحد القرّاء، و أنا أجيبه: ”لماذا لا أخاطبك أنت بالذات؟“! أما كنت تدّعى أنّك الأفضل؟ كيف وصلت إلى هنا؟ ألا تذكر كيف كان يمدحك أساتذتك حين كانوا يضربون زملاءك؟ هل قابلت أحد الذين درسوا معك في المراحل السابقة؟ ألم تلاحظ الاحترام الذي يوليه لك؟ لقد أقنعته بأنّك أفضل منه، وصلت إلى الجامعة على حسابه، و هو الآن يعلّق آماله عليك بأن تقود المجتمع. ما قولك في رجل عمل كحرس خاصّ لشخص بضع سنوات يتقاضى راتباً كبيراً، فلمّا تعرّض مخدّمه لمحاولة اغتيال قال الحارس في نفسه: ”إنّما هي روحٌ واحدةٌ“ و نجا بنفسه تاركاً الرجل يذهب للجحيم. ما يستحقّ هذا. إنّما أنت مثل هذا الشخص. ثمّ ماذا عن الترس؟ عن الـ ’تَبِخ‘؟ كيف تسمح لنفسك بأن تأخذ توقيعاً ’على بياض‘ من مشرف المعمل لتكتب فيما بعد القراءات التي تريدها؟ كيف تزوّر توقيعه إن لم يوقّع لك؟ كيف تدخل الامتحان بالكتاب؟ كيف تتعاون مع زملائك داخل قاعة الامتحانات؟ أولئك الذين تركتهم في المراحل السابقة و حظيت باحترامهم كانوا يفعلون كلّ ذلك خوفا من السوط؛ و ما أقساه؛ أمّا نحن فنفعله لنظلّ الأفضل: ما أن تخلّصنا من الآخرين و رفسناهم خلفنا و جئنا ههنا حتّى نظر بعضنا إلى بعض هل يراكم من أحدٍ ثمّ تولّى كلّ واحدٍ منّا يترّس و يزوّر. هذه هي الطريق التي توصلك من شخصٍ محترمٍ إلى شخصٍ فاسد. هل تسوؤك هذه الكلمة؟ إذن أكرّرها لك لتقرأها جيّدا: شخصٍ فاسد. و لو شعرتَ بأنّ المشاكل التي أتحدّث عنها أكبر من احتمالك فلا تفرح بأنّك أحرزت مرتبة الشرف الأولى: هذا كلّه حبرٌ على ورقٍ. لقد جرّبت أن أكون الأوّل في دفعتي، لكنّ هذا لم يشفع لي عند الفشل في المسائل الحقيقيّة. أخشى عليك من يومٍ تكتشف فيه أنّك كنت مستغَلاًّ أو واهماً كلّ هذه السنوات.

نظرةٌ دينيّة‏

ما تظنّ بكلّ ما تفعله في هذه الكلّيّة و ما يترتّب عليه؟ هل تعتقد أنّك مستقيم؟ هل ترى أنّك ترضي ربّك؟ إن كنت استوفيت الإيمان فماذا عن العمل الصالح؟ هل العمل الصالح هو العبادة؟ ماذا عن الفساد؟ كيف تتصوّر أن يكون الفساد؟ هل أنت ممّن يقولون: ‏(‏..رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)‏ أم ممّن يقولون ‏(‏..رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؟ ماذا لو كنت حاضراً حين دعا أحد الأنبياء عليهم السلام للإسلام؟ هل كنت ستكون من المؤمنين أم من القائلين: ‏(‏..بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)؟ أكتفي بهذه الأسئلة، و أرجو أن يفتح الزملاء نقاشاً واسعاً عن البعد الدينيّ لكلّ مشاكلنا: ما بال العلمانيّين ينادون بإبعاد الدين عن الحياة و ما يعينهم عليه إلاّ الإسلاميّون!

نظرةٌ عقلانيّة‏

هل تدرك معنى أن تعيش في بلدٍ غير مخطّط؟ يعني ببساطة أنّه لا يمكنك الاعتماد إلاّ على حسن حظّك. ربّما انتظرتَ كثيرا اللحظة التي تستلم فيها شهادتك أمام جمعٍ من الناس و ترفعها بفخر على الملأ، لكن قد لا يحدث هذا.. لقد كنتُ شخصاً أكاديميّاً في أحد الأيّام، لكنّني وجدت نفسي فجأةً في معسكرٍ بالمرخيّات؛ و جدت أنّ دراسة الهندسة يتخلّلها بعض المواد الغريبة؛ و وجدت نفسي أدرس في جامعة الخرطوم بينما أستلم شهادتي من إدارة الخدمة الوطنيّة. هل تريد أن تقول لي: ”دي سياسة الكيزان الوسخين“؟ أنت واهم! ما رأيك أن نعيّنك الآن رئيساً للجمهوريّة (يبدو أن صلاحيّاتي أكبر مما تتصوّر!). هل تعتقد أنّك ستفعل الصواب؟ هل تعرف الصواب؟ أين تعلّمته؟ لا تتسرّع في الحكم على الأشياء. لو سألتَ أيّ شخصٍ عن سبب أيٍّ من المشاكل في السودان لأجابك بأنّها مشاكل اقتصاديّةٌ بسبب قلّة الإمكانيّات، أو كما يجيبون. أرجو ألاّ تكون كأيّ شخصٍ.

ربّما تقرّر بعد ذلك أن تحلّ هذه المشاكل بشكلٍ فرديّ فتجمع الكثير من المال لتعيش كما تريد. قد تنجح في جمع المال، لكنّه لا يضمن لك أن تعيش كما تريد: «المشاكل العامّة لا تنفع فيها الحلول الفرديّة إلاّ سعيد الحظّ و عديم الضمير.» قد تشتري أفخم سيّارة، لكنّك ستنتظر ساعة لتعبر كبري النيل الأزرق إن أردت: «بإمكانك أن تشتري السيّارة التي تريد، لكنّك لا تشتري الشارع.» و المرارة الحقيقيّة تكون عندما تدفع الكثير من المال مقابل حياةٍ بعيدةٍ عن أن تكون مُرضية. يمكنني أن أضرب لك العشرات من الأمثلة بهذا المعنى، لكنّك تفهم ما أريد قوله: «الشخص الواعي المتحضّر يقسم ماله و جهده و وقته بين نفسه و المجتمع الذي يعيش فيه،» ذلك لأنّ السعادة الكاملة لا تتحقّق بأن يكون كلّ شيء عندك بل بأن يكون في المكان الأنسب. إن كنت بعد ذلك تظنّ أنّك أنت المكان الأنسب فهذا نقاش طويل لن أدخل فيه الآن.

إذن فلابدّ من تخطيط جيّد للمجتمع قبل أن تفكّر في جمع المال أو الجاه أو العلم أو الشهادات. كم تعطي المجتمع و كم تعطي نفسك؟ ربّما كان عليك أن تعطي المجتمع كلّ شيءٍ في مثل ظروفنا هذه، لأنّنا الآن لا نسعى لوضعٍ أفضل بقدر ما نخاف من وضعٍ أسوأ. و بينما لا يستطيع كثير من الناس أن يعطي المجتمع إلاّ المال و الكلمة الطيّبة فإنّ وضعك و مؤهّلاتك العقليّة تجعلك قادراً على إدارة المجتمع و التحكّم فيه مباشرةً. و ربّ قائل: ”ما دام تخطيط المجتمع فرض كفايةٍ أترككم لتخطّطوه أنتم بينما أجمع لنفسي“. ماذا نسمّي هذا؟ هل تسمح لنفسك بأن تفعل ذلك؟ إذن فلتفعل؛ لكن بالله تأكّد أوّلاً أنّ هنالك من يخطّط المجتمع، إذ قد لا تجد قيمة لكلّ ما جمعت. و ما بال قومٍ يقولون: نذهب إلى أوروبا و أمريكا لنتعلّم ثمّ نعود لننفع بلدنا بما تعلّمناه؟! أقول لهم عبارة موجزة: لا تكذبوا. و الهجرة غرباً موضوعٌ كبيرٌ أرجو أن تتاح لنا فرصةٌ لمناقشته يوماً ما إن شاء الله.

ختاماً أقول للبرالمة: أنت في أفضل الأوضاع لتحلّ كثيراً من المشاكل: مجرّدٌ من المسئوليّة و تملك مجتمعاً يشبهك تستطيع أن تخاطبه. إن كان الاختيار الآن بين أن تحتفظ بمبادئك كاملةً و أن تحتفظ بشهادتك نظيفةً فإنّ طريق الابتزاز سيوصلك إلى مكانٍ سيء، فقد يكون الاختيار يوماً بين كلّ مبادئك و بين مصدر عيشك. و طريق المبادئ بالمقابل يصعب السير فيه لشخصٍ بمفرده. الأفضل من هذا و ذاك أن تشقّ طريقاً ثالثاً تمهّده لتسير فيه أنت و الآخرون. إن كنت ستفعل ذلك يوماً ما فالأفضل أن يكون ذلك الآن: ”ربّ يوم بكيتُ منه فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليه!“ و لا يغرّنّك أنّ الكثيرين قبلك تجاهلوا المشاكل و وصلوا إلى أوضاعٍ تظنّ أنّها جيّدة؛ فقد كانت النتيجة ببساطةٍ أنّك تفكّر في أن تهرب من هذا البلد الذي لا يطاق العيش فيه!! ثمّ أقول: «سأبحث عن طريق ثالث؛ سأبحث عنه حتّى أجده إن شاء الله؛ لكن أرجو ألاّ يتفرّج الناس عليّ و كانّني أتحدّث عن مشاكلي الخاصّة. نحن في مركبٍ واحدٍ، و إن غرق فسنغرق جميعاً.»‏

Posted in Arabic, El Sadeem | Tagged | 1 Comment